Author

لماذا الانحراف الفكري؟

|
منذ فترة ليست بالقصيرة والساحة الفكرية في العالمين العربي والإسلامي تعج بمناقشات ساخنة وحادة بشأن التوجهات الفكرية التي يأخذ بها البعض خاصة ما له علاقة بتنمية وإدارة المجتمعات، وما من شك أن اهتمام الأفراد خاصة إذا كانوا من أهل العلم، والفكر، والثقافة يعتبر قياما بواجب، وممارسة لحق، وليس تطفلا كما يعتقد البعض، وذلك نزولا عند قول الرسول ــــ صلى الله عليه وسلم ــــ «من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم». المراقب للساحة يجد أن التيارات الفكرية تتصارع في ادعاء صواب وصحة الأفكار التي تحملها، بل تعمد إلى تخطئة الآخرين واتهامهم بتهم قاسية ومؤلمة للنفس وبالأخص عندما يصل الأمر إلى القدح في المعتقد أو الولاء للوطن. ولو قدر للمرء النظر بصورة شمولية لمجموع هذه التيارات وفحصها بهدف معرفة الصائب منها والخاطئ لكان لزاما عليه أن يشخص وفق معايير متفق على جودتها وسلامتها، وذلك حتى لا تكون الأحكام مبنية على نظرة شخصية ضيقة مبعثها فهم وإدراك خاطئ، أو مصلحة شخصية أو فئوية. ما نقرأه أو نسمعه في وسائل الإعلام، أو في المنتديات والمجالس يصل إلى حد الاتهام بالتكفير، أو في الحد الأدنى الاتهام بالانحراف الفكري، وفي هذه الحالة يصل المراقب للساحة إلى حالة من الارتباك، والفوضى الذهنية، وبالأخص عندما تفتقد المعايير، وحري بنا أن نسأل: لماذا يصل الأمر إلى الاتهام بالانحراف الفكري؟ ومن المخول بإصدار الحكم؟ ومتى يكون ذلك؟ للإجابة عن هذه الأسئلة يلزم تحديد اللاعبين في الساحة الاجتماعية، فالنظام السياسي في أي مجتمع، له مصالح قد تتعارض مع بعض الأطروحات الفكرية، ومن المصلحة له تشويه، وضرب أصحاب الفكر الذي يهدد مصالحه، بل تشويه الفكر بعينه. وربما مصلحته تلتقي مع أطروحات أخرى، فيحييها، ويشجعها، ويعطيها فرصة النمو والانتشار. كما أن من اللاعبين جماعات، و هيئات مرتبطة بالنظام السياسي بمصالح مشتركة، لذا يهمها اتهام أطراف بالانحراف الفكري لمجرد أنها تحمل فكرا مضادا لما يريده النظام، حتى لو كان فكر هذه الأطراف سليما، وذا طابع إصلاحي لأوضاع اجتماعية، إذ إن تشويه هذه الجماعات، وفكرها مبعثه المحافظة على المصالح التي لا تتحقق دون الارتباط العضوي مع النظام حتى و لو كان على خطأ. أما اللاعب الثالث على الساحة فهم أفراد، وجماعات مهمشة، ولذا تتبنى أفكارا بهدف تحقيق مكاسب شخصية لاعتقادها أن طرح هذه الأفكار يشكل ضغطا على النظام، ومن ثم يضطر لتقديم تنازلات لهؤلاء الأفراد، والجماعات اتقاء لشرهم، وذلك كما يحدث من بعض من يتبنون أفكارا يسارية ليس إيمانا بها، ولكن لما قد يترتب على طرحها من مكاسب، كالحصول على منصب في توليفة حكومية.على افتراض الانحراف الفكري لدى البعض هل يترك التصنيف لاجتهادات فردية أم أن الأمر يستوجب عملا وجهدا مؤسسيا يقوم على أسس علمية تستند إلى معايير واضحة و دقيقة، إضافة إلى إتاحة الفرصة لمن يحمل الفكر للمناظرة حتى يواجه بالحجة والدليل والبرهان أو حتى يثبت سلامة وصحة فكره. إن الأسباب المتوقعة للانحراف الفكري تتمثل في طريقة التربية المنزلية أو المدرسية وذلك لما يجده الفرد من تناقضات في المفاهيم، أو لتعارض المفاهيم مع الواقع، فالمفهوم المجرد غالبا ما يضعف أمام الواقع الحسي، كما أن عدم النضج النفسي والعقلي يسهل تقبل البعض لمفاهيم حتى لو كانت واضحة الانحراف، أما الإحباط الناجم عن الفشل في مواقف الحياة كالدراسة، أو العمل أو أي شيء آخر. إن إهمال الأسرة لأبنائها وعدم القرب منهم والحنو عليهم يشعرهم بالعزلة والبعد عن المحيط الأسري والاجتماعي مما يضطرهم للبحث عن ملاذات تغذيهم منها فكريا، لكن علاج مثل هذه الحالات لا يتم من خلال اتهام الأعداء بالعمل فهذا أسهل طريق للتخلي عن المسؤولية لكنه لا يحل المشكلة بل يضاعفها.
إنشرها