Author

وزارة العمل في ميزان الاقتصاد والمجتمع

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
استكمالا لما تم طرحه في المقال الأخير، أقول إنه من المؤسف أن تكشف التطورات الفعلية والإحصاءات الرسمية، عن تمادي وزارة العمل كثيرا في توريط الاقتصاد الوطني والمجتمع على حد سواء أكثر من إسهامها في حل واحد من أخطر التحديات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية لدينا. ألخص هنا توثيقا للتاريخ بالتطورات والأرقام موثوقة المصادر جميع ما قامت به الوزارة، مؤكدا أن أغلب تلك الإحصاءات تم استقاؤها من تقارير الوزارة نفسها. أولا: بدأت وزارة العمل بتدشين برامجها للتوطين بالاعتماد على معايير خاطئة "نطاقات"، انطلقت فيها من اعترافها بالتشوهات الكامنة في سوق العمل المحلية، واعتبرت تلك التشوهات "معايير رسمية" تقيس بناء عليها درجة التزام منشآت القطاع الخاص بتلك البرامج. حدث ذلك؛ في المرحلة التي كان مفترضا أن تقوم الوزارة بمعالجتها بالتعاون مع بقية فريق الأجهزة الحكومية المسؤولة عن الجوانب الاقتصادية والمالية والتجارية والصناعية، وبالتعاون مع الغرف التجارية لأجل معالجة تلك التشوهات للحد منها، لا أن تعتبرها معايير تقيس تقدم التوطين. ثانيا: قامت الوزارة في مرحلة تالية بفرض رسوم 2400 ريال بناء على معيار آخر مختلف تماما عن معايير نطاقات! استندت فيه إلى نسبة للتوطين تعادل 50 في المائة، متجاهلة تماما جميع المعايير السابقة التي ألزمت فيها منشآت القطاع الخاص تحت مظلة نطاقات. وقد يخفى على الكثير لماذا لجأت الوزارة لهذا الإجراء، الذي لا يفرق بين منشأة في النطاق الأخضر وأخرى في النطاق الأحمر! بل قد تضطر بعض المنشآت التي يشترط دخولها للنطاق الأخضر 30 في المائة لدفع تلك الرسوم، فيما قد لا يفرض على منشأة أخرى قد تكون واقعة في النطاق الأصفر ومعدل توطينها 55 في المائة! أظهرت نتائج البحث والتقصي في بيانات تقارير وزارة العمل عن السبب وراء احتساب تلك النسبة غير المبررة، عن أن الكثير من المنشآت نجحت بصورة لافتة بتجاوز معايير نطاقات، وتفوقت تلك المنشآت بطرق مشروعة وغير مشروعة "التوطين الوهمي" في تلبية تلك المتطلبات. وهو ما حدث فعلا خلال الفترة الوجيزة من 2011 ـــ 2013، حيث انخفضت نسبة المنشآت الواقعة في النطاق الأحمر من 48.7 في المائة بنهاية 2011 إلى 25.6 في المائة بنهاية 2012، ثم إلى 6.8 في المائة فقط بنهاية 2013. وحدث ذلك أيضا بالنسبة للمنشآت الواقعة في النطاق الأصفر، انخفضت نسبتها من 16.3 في المائة بنهاية 2011 إلى 14.2 في المائة بنهاية 2012 لتستقر أخيرا عند 7.7 في المائة فقط بنهاية 2013. هنا لك أن تتخيل في ظل تلك التطورات ضآلة المبالغ التي كان سيتحصل عليها صندوق الموارد البشرية، لو أن آلية تحصيل 2400 ريال اعتمدت على معدلات التوطين وفقا لنطاقات! يظهر جليا هنا أن الهدف من جمع تلك الأموال منفصل تماما عن هدف التوظيف، ويتأكد أن الهدف الرئيس من اعتماد هذه النسبة غير المبررة هو فقط زيادة الموارد المالية للصندوق. وللعلم؛ فإنه حتى لو تم توظيف جميع العاطلين من السعوديين والسعوديات بالكامل، المسجلين في قواعد بيانات "حافز"، فلن تتجاوز نسبة التوطين في سوق العمل بالقطاع الخاص، وفقا لوضعه الراهن سقف النسبة 28 في المائة، بمعنى استحالة أن تصل نسبة التوطين في منظور الأجل الطويل إلى تلك النسبة البالغة 50 في المائة! أرجو أن يكون قد اتضح السبب الرئيس من اعتماد تلك النسبة، وأنه لأجل تحصيل الأموال، حتى إن تسببت في رفع تكلفة التشغيل لدى منشآت القطاع الخاص، ومن ثم زيادة أسعار السلع والخدمات على المواطنين في نهاية الأمر! ثالثا: على الرغم من كل ما تقدم ذكره من محاذير خطيرة سبق التحذير منها منذ أول يوم أعلنتها وزارة العمل، ورغم تجديد التحذير منها مع بداية كل خطوة جديدة تنتهجها الوزارة لاحقا، لأن ما بني على خطأ، فلا بد أن ما سيليه سينتج عنه بالضرورة خطأ أكبر وأفدح! ولكن دون جدوى، فلا استجابة تذكر من الوزارة، بل لقد ذهبت كل التحذيرات أدراج الرياح. أتى التحذير الأكبر للوزارة بأن ما كانت تظنه سرعة في الإنجاز كما جاهدت ومعها الصندوق للتسويق له طوال الفترة الماضية، ليست تلك السرعة في حقيقتها إلا وعاء مخفيا لطاعون التوظيف الوهمي! الذي يتفشى بصورة خطيرة لاحظها الجميع إلا الوزارة والصندوق، إلى أن جاءت مفاجأة اكتشاف هذا الطاعون من قبل مجلس الشورى في العام الماضي أثناء مناقشته للتقرير السنوي للوزارة، وأن أغلب الوظائف التي تم توفيرها للسعوديين لا تتجاوز كونها وظائف وهمية! كان حري بالمجلس حينها أن يطالب بتعليق برامج التوطين، والعمل فورا على معالجة الأوضاع التي آلت إليها سوق العمل المحلية، وإلزام وزارة العمل بالتطبيق التام لاستراتيجية التوظيف السعودية وعدم الخروج عنها، غير أن شيئا أو جزءا من ذلك لم يحدث بكل أسف. ثم جاءت ساعة الحسم أخيرا، مع اعتراف نفس الوزارة بتفشي التوظيف الوهمي، وهو ما ينسف تماما جميع ما تحدثت عنه من منجزات معلنة، وما يعني أننا وصلنا لما وراء الخطوط الحمراء التي طالما حذرت منها استراتيجية التوظيف السعودية والأقلام المخلصة. السؤال المطروح اليوم: هل يكفي تعليق تلك البرامج؟ وهل في مقدرة الاستراتيجية إصلاح ما أعطبه الدهر؟ واقع الحال يشير إلى وجود شك في جدوى ذلك، وأن طريق العلاج في الوقت الراهن قد يتطلب أكبر من ذلك بكثير جدا، لا من حيث الجهد، ولا من حيث التكلفة. رابعا: ندخل في الوقت الراهن الطور الأخير من نتائج العمل بتلك البرامج، ليطبق بأخطاره القصوى على مقدرات الاقتصاد والمجتمع على حد سواء! المتمثل ببدء العمل بنظام ساند، سبق أن أوضحت جزءا من مخاطر العمل به في مقالين سابقين بعنوان: ما الأبواب التي سيفتحها «ساند» على اقتصادنا؟ ("الاقتصادية" عدد 7618)، و«ساند» المغذي الجديد للبطالة وأكثر من ذلك (الاقتصادية عدد 7632). لعل من أخطرها أنه سيؤدي إلى الاستغناء عن عشرات الآلاف من السعوديين والسعوديات في المواقع القيادية والتنفيذية، من ذوي الأجور المرتفعة وفوق الأجور المتوسطة، يقدر أن تتجاوز أعدادهم سقف 203 آلاف عامل وعاملة من المواطنين في منظور السنوات القليلة المقبلة، وإحلالهم بآخرين يسهمون في رفع معدلات التوطين، ولكن بأجور متدنية جدا، وهو نتيجة طبيعية تلبي المعايير المشوهة لنطاقات، وفي الوقت نفسه يمثل أخطر النتائج التي لم يكن في الحسبان توقع حدوثها! كل هذا يتوقع حدوثه بعد إقرار النظام الجديد للعمل، والتعديلات المتوقع إجراؤها على مواد التعاقد بين رب العمل والعامل. لقد وصلنا مع وزارة العمل إلى الفصل الأخير من برامجها، وظهرت عيانا بيانا النتائج! ترى كيف ستكون النتائج مستقبلا تحت مستجدات قادمة هي أصعب بكثير مما مضى؟ والله ولي التوفيق.
إنشرها