Author

سعار تجاري

|
توافق "الأمانة" على تحويل مدخل الحي الهادئ إلى شارع تجاري، فتتحول المساكن بين ليلة وضحاها إلى محال تعلوها المكاتب ومساكن العمال. بغض النظر عن الفوضى والضوضاء وربما الأذية التي تحدث هنا لسكان الحي، نجد دائما أن هناك من يحارب للحصول على هذه المحال. إذا كان الشارع في منطقة فاخرة فسنجد منافسة شديدة من المعارض الكبرى والمطاعم الجديدة ومعارض دهن العود والعطورات وربما المصارف ومحال الاتصالات كذلك، مما يرفع من سعر التأجير ويحفز بقية ملاك المباني في ذلك الشارع على هدمها وتحويلها إلى معارض بأسرع ما يمكن. وإذا كانت المنطقة عشوائية أو أقل في المستوى من سابقتها فسنجد أن هناك منافسة من نوع آخر بين أرباب العمل والمتسترين لفتح مغاسل الملابس والحلاقين ومطاعم الفول والأرز. في كل هذه المشاهد، يغيب دعم المشاريع الصغيرة الحقيقية وشباب الأعمال، وبالطبع تختفي القيمة التي تعود على المستفيدين من هذه الخدمات وبقية سكان الحي. عندما ننظر في الحالة الأولى سنجد مستثمرا مليئا يمتلك سلسلة من المعارض وفريقا من الموظفين لتطوير أعماله. ولا أعلم السبب تحديدا ولكن هذا المستثمر على استعداد لاستئجار عدة محال متجاورة وتجهيزها على مهل لفترات قد تزيد على السنة. ارتفاع تكلفة الاستئجار وطول فترة التجهيز مع المنافسة الشديدة تعني أن هذا المستثمر يكسب أضعاف هذه التكاليف ــــ هامش الربح مرتفع جدا ــــ أو أن نقوده تضيع ويستفيد منها من حوله وهو لا يتأثر أو ربما لا يدري! في النهاية لا تقدم معارض دهن العود أو حتى معارض الاتصالات التي نزورها مرة أو مرتين في السنة تلك القيمة لسكان الحي أو اقتصاد المنطقة. في الحالة الثانية نجد أن هناك شبكة من منفذي المشاريع التقليدية متدنية التكلفة، تلك المشاريع المكررة ذات الربحية المؤكدة. وما يلاحظ هنا أن جزءا كبيرا من هذه المحال يقدم خدمات متدنية الجودة تستفيد من معظمها العمالة وسكان الحي الذين قد لا يلاحظون هذا التدني الخطير في مستوى الجودة. بل قد يشعر بعض السكان برهبة من المطالبة برفع مستوى الجودة لأن ذلك يعني رفعا متوقعا للتكلفة. مرة أخرى، لا أعتقد أن هذه المشاريع تقدم ما يجب من القيمة للمستفيدين منها، في الحالة الأولى تهدر القيمة وفي الثانية تستغل على حساب الغير. على الرغم من أن "سخونة" العرض والطلب وارتفاع وتيرة النشاط التجاري من العوامل الإيجابية التي تحفز صنع القيمة وتحرك المنطقة اقتصاديا - هذا ما يطمح له العديد من عمد البلديات والمدن حول العالم - إلا أن هذا النشاط عندما يحدث لدينا يصنع نتائج سلبية معاكسة. من أول ما نلاحظه في مثل هذه المشاريع هو صنعها وظائف جديدة تعاكس بوضوح خطط التوطين. تشكل هذه الأنشطة حاجزا تنافسيا ضخما أمام مشاريع الشباب، فالشركات الكبرى قد تدخل إلى المنطقة بطريقة غير أخلاقية إذ ترفع من أسعار الإيجار وتستحوذ على المساحات لأغراض تسويقية - وتأكيد الوجود ربما لا أكثر - على حساب جودة الحياة في الحي. وإذا علمنا أن العديد من هذه الشركات يحظى بمعدلات ربح مرتفعة وفوائض نقدية عالية فلن نستغرب وجودها في كل شارع تستحوذ فيه على مساحات غير مستغلة بديكورات مكلفة وزوار قليلين، ربما أكبر ما يلفت الانتباه هو اللوحات الضخمة التي تعلو معارضها. أستغرب ممن يحارب حصر وتقنين الأنشطة داخل الأحياء حفاظا على حرية الأسواق، وهو يقتلها أساسا بتمكين الخيارات الاستثمارية للأقوياء فقط. كيف تتحول الشوارع السكنية إلى ميادين تخدم أصحاب الأموال، ويغيب عن المنفعة سكان الحي وشبابه؟ التزايد غير المنضبط للمناطق التجارية يسمح بنمو المزيد من بؤر التستر، ويقلل كذلك من قدرة مُنظّم السوق على التأثير والضبط والتحفيز. استمرار هذه الأنشطة بهذه الوتيرة يجعل السيطرة أصعب وتطبيق الخطط والاستراتيجيات شبه مستحيل. نحن نفتقد وجود الرؤية الواضحة والمسؤولية الموحدة بغياب جهاز مركزي يرعى المنشآت الصغيرة والمتوسطة ومشاريع شباب الأعمال. والأدهى من ذلك هو استمرار الأعمال والأنشطة التي تجعل تأثير هذا الجهاز حتى في حالة وجوده شبه مستحيل، لأن العديد من الجهات لا يزال يمارس العشوائية التي تتشكل حسب احتياجات بعض الأطراف على حساب غيرها؛ تخيلوا أنني وجدت أخيرا من يطلب من غيره من الأعضاء في منتديات الإنترنت ومواقع التواصل من يساعده على تحويل شارع سكني إلى شارع تجاري!
إنشرها