ثقافة وفنون

«بلادي منار الهدى» .. حكاية وطن يُرى كل شيء فيه أخضر

«بلادي منار الهدى» .. حكاية وطن يُرى كل شيء فيه أخضر

«بلادي منار الهدى» .. حكاية وطن يُرى كل شيء فيه أخضر

"بلادي بلادي منار الهدى .. ومهد البطولة عبر المدى" النشيد الوطني الذي لا يزال يسكن وجدان جيل بأكمله ليستذكره بمزيج من النشوة والحنين. ففضلا عن إذاعته في كثير من المناسبات الوطنية تلفزيونيا وإذاعيا. كان من أكثر ما يميز حضوره تاريخيا اختياره من قبل كثير من تربويي ذلك الوقت كنشيد معتمد تصدح به الإذاعات المدرسية كل صباح، والطلاب يسيرون على أنغامه في طريقهم لصفوف الدراسة، في خطوات عسكرية، ووجوه مستبشرة، تستحثها وتستنهضها هذه الأنشودة بلحنها وكلماتها. الدكتورة جنان التميمي، أستاذ اللسانيات المساعد، في جامعة سلمان بن عبد العزيز، لا تستغرب هذا التعلق المتفاوت سنيا بهذا النشيد، رغم عمره الزمني الطويل. فالقصيدة، في رأيها، تتضمن معاني جميلة على مستوى المفردات وعلى مستوى الدلالة العامة والصوتية، وبالتالي بإمكانها أن تخاطب مستويات متعددة، ثقافيا وسنيا. وتضيف التميمي، مفرداتها، مثلا، وبصفة عامة، تمنح المستمع سلاما داخليا مع النفس ومع الآخر، وفي الوقت ذاته تعزز همة الدفاع عن الوطن دون اعتداء. فعزم السيوف يقابله هدي القلم. كما يشدد النشيد على فضائل، من نوع التسامح والسؤدد إضافة إلى صون العهود والذمم. وفي مقابل هذا السلام الداخلي مع النفس ومع الآخر، هناك جانب العزة والدفاع عن الممتلكات والمقدرات والهوية. أما البيت المكرر في القصيدة، بحسب التميمي، بلادي بلادي منار الهدى ومهد البطولة عبر المدى، فهو البيت الذي يقود هذا التوازن اللفظي والمعنوي من أول القصيدة إلى آخرها. فمن جهة هناك هدى وسلام ومن جهة أخرى هناك بطولة لو حصل أي اعتداء، وهذا كله يجعلنا نستشعر الراحة والسلام وحب الوطن حين نسمعها. العمل من إنتاج نهاية السبعينيات. ومن كلمات الشاعر والإعلامي اللبناني سعيد فياض وألحان المبدع السعودي سراج عمر. الذي تحدث عما ميز هذا العمل وظروف خروجه للنور في حوار صحافي سابق قائلا: "الصدق" في كتابته وفي الاشتغال عليه هو أكثر ما ميز هذا العمل. الشاعر كان صادقاً فيما كتبه فوصلني الإحساس. ويضيف سراج، قابلت كاتب هذا النص لأول مرة في مكتب الشاعر محمد العبد الله الفيصل في "البلد" في جدة عام 1395هـ وكنت في تلك اللحظة أتحدث مع الفيصل عن تعاون بيني وبينه يخص الفنان عبد الحليم حافظ وكان فياض موجوداً وقال لي "يا ابني أنا لدي نص وطني يصلح أن يكون أغنية وعندي إحساس أنها إذا غنيت سيكون لها شأن" وذهب لإحضارها وأعطاني إياها وفي تلك الفترة وعندما كان النص معي توفي الملك فيصل ـــ يرحمه الله ـــ وفي تلك الحالة السيئة التي كنت عليها بعد وفاة الفيصل فرغت كل ما لدي من أحاسيس فيما لدي من نصوص وطنية وكان من ضمنها ذلك النص الذي أذيع بعد ذلك لمرة واحدة في مناسبة اليوم الوطني وبعد ذلك أصبح يعرض ويذاع باستمرار وتفاعل معه الجمهور كثيراً. محمد سعيد إبراهيم أفندي فياض، والمشهور بـ "سعيد" هو الابن الأكبر للحاج إبراهيم أفندي فياض، الذي شغل منصب محافظ النبطية أيام الانتداب الفرنسي على لبنان. من الكتّاب اللبنانيين الذين أسهموا في إثراء الإذاعات العربية بالبرامج الثقافية والأمسيات الشعرية. صدر له عدد من الدواوين الشعرية والقصص الروايات. استقر به الحال ليعمل بالسعودية في مجلة "الرياض" ثم في عام 1963 انتقل إلى مدينة جدة وعمل في الإذاعة وأنتج برامج كثيرة منها: "حكمة اليوم"، "مع الناس" و"شمس الأصيل". وبقي فيها حتى عام 1975 تاريخ تقاعده لأسباب صحية. توفي في 15 تشرين الأول (أكتوبر) من عام 2003 م. وأسست ابنته الدكتورة دنيا فياض في عام 2004 جائزة باسم سعيد فياض للإبداع الشعري. وكما ارتبط الكاتب بهذه الأرض بعشرة طويلة، وصداقات عميقة، وأعمال مميزة، خلقت لديه هذا الإحساس المفعم بالمكان والزمان. كذلك هو ابن الوطن الملحن القدير سراج عمر الذي درس في تسع جامعات عالمية. بدأ مشواره في الستينيات وشكل مع الراحل طلال مداح ثنائيا متجانسا. ليُسجَل كعضو مؤسس في اتحاد الفنانين العرب وكأول عضو سعودي في جمعية المؤلفين والملحنين في باريس. إضافة إلى عضويته في المجمع العربي للموسيقى. #2# ومن أعمال الموسيقار سراج عمر الوطنية، التي لا يمكن إغفالها، قيامه بإعادة توزيع النشيد الوطني السعودي بالآلات النحاسية العسكرية بطلب من الملك فهد - يرحمه الله - كما وثق 160 قطعة فولكلورية وطنية من خلال تسجيلها في الإذاعة لسعودية بعد أن لاحظ الكثير من السطو على أعمال فولكلورية ونسبتها إلى ملحنين معاصرين. كما يذكر أنه في حوار تلفزيوني مع الملحن سراج عمر، وفي معرض الحديث عن أجواء هذا العمل أشار إلى توصية الملك فهد له حينها وتأكيده على ضرورة أن يكون العمل الوطني مكرسا في كلماته ولحنه لمديح الوطن فقط، بعيدا عن الأشخاص، حتى تتحقق الغاية منه. الاستعراض المختصر لما سبق يقود إلى ملاحظة أسباب نجاح هذا العمل وتميزه منذ انطلاقه لهذا اليوم. فالتقاء كاتب ذي ثقافة عالية وإحساس يدين لهذا الوطن بالكثير، مع موسيقار بدرجة باحث ومؤرخ موسيقي، وما تبع ذلك من إشاعة العمل تربويا وحياتيا ليتربى جيل بأكمله علي هذه المعاني الجميلة في حب الوطن. هو ما جعل هذا العمل ملامسا للوجدان، ومحفزا للذاكرة الوطنية باستمرار، وهذا جل ما يستهدفه أي عمل وطني حقيقي، يجعل من هذه البلاد منارا للأمم .. باسم المهيمن حامي العلم ... وعزم السيوف وهدي القلم". كلمات تتقابل وتتجانس صوتيا ولغويا في شكل بديع يربي النفوس الناشئة على حب الوطن وعلى البطولة والفدا، دون أن يهمل السلم، أساس الفطرة السليمة، فـ "عليها ومنها السلم ابتدى ... وفيها تألق فجر الندى". أما القسم، فيراعي كل القيم والأعراف الإنسانية، ليفرق بين المهتدي والمعتدي. فـ "يميناً لخالقنا الأوحد ... علينا ونحن رجال الغدِ. عهود الحفاظ على السؤددِ ... بصدق الرعاية للمهتدي وصدق الرماية للمعتدي. وتبقى "العُلا" دائما هي مطلب الشعوب الأبية الطَموحة. "فيمينا بلاد الهدى نفتدي ... علاكِ ببذلٍ سخي اليد ... وعمر يطول بمستشهدِ".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون