Author

تجار الفريضة

|
(حجَّ يا حاج) كلمة طالما سمعناها أثناء المناسك لنصح من زاغت حركاته أو ألفاظه عن استشعار المنسك العظيم الذي يفترض أن تختلف دورة الناس فيه عن حياتهم العادية مكانا وزمانا ولباسا وتعاملا وبيئة ومشاعر وأفعالا وأقوالا. صحيح أنه فرض السنة التاسعة للهجرة، لكنه فرض أيضاً على أمم سابقة منذ إبراهيم -عليه السلام-، "وأذن في الناس بالحج"، فأداه الحنفيون معه وبعده. ولكن كعادة البشر سرعان ما تدخل البدع في شعائرهم، ليأتي نبينا صلوات الله عليه موضحا كل ما يتعلق بفريضتنا الخامسة، ليس نظريا فقط بل عمليا في حجته الوحيدة حجة الوداع ومعه فيها أكثر من 100 ألف مسلم ومسلمة. كانوا سواسية في سفر وعيش ومأكل وملبس وأداء. الذهاب إلى الحج أشبه ما يكون بالانتقال من الدنيا ومتاعها إلى الآخرة وحقيقتها، فاغتسال الحاج ولبس الإحرام و خروجه تاركا أهله وماله أشبه ما يكون بيوم الرفيق الأعلى. وكل تعب ومشقة تعايشها رحلته مع الحجيج هي تذكير بيوم حساب الخلائق. فهل حجاج عصرنا يعون ذلك؟ الحال ليس واحداً. البعض يدركه سواء كان ذا سلطة أو جاه أو مال، فنجد همهم الأول أداء الفريضة، متطلعين أن يجمعهم الله مع الفقراء يوم المشهد العظيم. وفئة أخرى تنفر مشمئزة من جموع الحجيج وضعفاء الناس، بل قد تراهم من معوقات الحج. أما على صعيد واجب الدولة في خدمة ضيوف الرحمن فقد استشعره منذ البداية المؤسس الملك عبد العزيز الذي كان أول من شكل إدارة خاصة سُميت مجلس إدارة الحرم مهامها إدارة شؤون المسجد الحرام وصيانته وخدمته، لتشهد بعده التوسعات الواحدة تلو الأخرى، حتى أتت آخرها توسعة خادم الحرمين الشريفين الحالية بتكلفة 40 مليار ريال جاعلة الطاقة الاستيعابية ثلاثة ملايين مصلِّ، و105 آلاف طائف في الساعة الواحدة. ليس ذاك فحسب، فهناك المخطط الشامل لمكة المكرمة والمشاعر الذي يمتد تنفيذه حتى 2040 بتكلفة 723 مليار ريال. لكن مشاريع الدولة ليست بغرض الاستثمار بل تنمية لخدمة ضيوف الرحمن خارجيين وداخليين. فما الذي يصعّب لهما مناسكهما؟ بالنسبة للخارجيين لا شيء، بل هو في متناول معظم الطبقات ولا تحدد أعداده إلا النسبة المحددة لأعداد الحجاج مراعاةً لظروف التوسعات. أما حجاج الداخل فحكاية أخرى مريرة. مرارتها في الارتفاع السنوي الباهظ لتكاليف الحملات. وتوضيحاً للأمر فهذا لا علاقة له بمسألة الطوافة والمطوفين. فشركات الداخل استثمارية بحتة متاحة الملكية لكل سعودي حسب شروط الترخيص. ومع الحديث عن (الحج المخفض) الذي تبنت فكرته وزارة الحج إلا أن السماسرة نجحوا في الالتفاف على تخفيضه بسبل كثيرة مستغلين قرب انتهاء التسجيل فرفعوا الأسعار 40 في المائة. يعلل بعض أصحاب الحملات غلاء أسعارهم بسهولة الوصول من موقعهم إلى الحرم، وآخرون بقربهم من الجمرات أو جودة خدماتهم. فإن كانت هذه أسبابهم التي لا أراها وجيهة لهذه المبالغ الضخمة، فما سبب ارتفاع الأسعار لدى بعض أصحاب الحملات لنفس الموقع بل لنفس الخيمة من 15 ألف ريال للحاج الذي ينام على سرير علوي من طابقين، فإن اختار السرير الأرضي دفع 17 ألفا، و18 ألفا و500 ريال إن أراد سريرا مستقلا؟ حتما الإجابة ليست السرير! وزاد من توغُل الحملات في رفع أسعارها اشتراط وزارة الداخلية لتصاريح الحج ضرورة أخذها عبر شركة حملة حجاج. فاستقوت الشركات باحتكارها القرار وفرضت أسعارها. نأمل من وزارة الحج النظر في مسألة جشع أصحاب الحملات وطمعهم؟ لكيلا تحول الأسعار دون فريضته، باعتبار النسك "لمن استطاع إليه سبيلا".. وهو أقرب ما يكون لبيت الله، في جدة أو الطائف مثلا، ولا يستطيع دفع غلاء الحملة رغم توافر شروط الأمن والمؤونة والتيسير التي ضمنتها قيادتنا الوطنية -حفظها الله.
إنشرها