Author

الذي ينقص استقلال إنجلترا عن المملكة المتحدة

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"أسرة يحكمها الفرد الخطأ فيها، شبيهة بوضعية إنجلترا". جورج أورويل - أديب وكاتب بريطاني قبل أيام من الاستفتاء التاريخي حول استقلال اسكتلندا عن المملكة المتحدة، الذي أدى إلى رفض الاستقلال، قال رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون "لا أريد أن أكون رئيساً لوزراء إنجلترا، أريد أن أظل رئيسا لوزراء المملكة المتحدة كلها". وقبله بسنوات، وجه ديكتاتور زمبابوي روبرت موجابي خطابا لرئيس وزراء بريطانيا آنذاك توني بلير قال فيه: "حسنا بلير، احتفظ بإنجلترا، ودعني أحتفظ بزمبابوي". نجت المملكة، ونجا معها كاميرون، بل الأحزاب الرئيسة التي اتحدت جميعها في مقاومة شرسة ضد الانفصاليين الاسكتلنديين، الذين تقدمهم الاتحاديون في الاستفتاء بـ 10 في المائة فقط، وهي نسبة ليست قليلة، فيما لو كان الإقبال على الاستفتاء منخفضا، إلا أنه كان مرتفعا بصورة تاريخية حقا. وصل إلى 86 في المائة. وفي النهاية هذا الأمر ليس مهما وفق حسابات اتُفق عليها، على مبدأ النصف زائد واحد. الخاسرون في الاستفتاء، لم يخسروا بصورة ماحقة كاسحة. حصلوا في الواقع على تعهدات حتى قبل الاستفتاء بمزيد من السلطات تنقل من الحكومة المركزية في لندن، إلى الحكومة المحلية في إدنبرة. وبصيغة أخرى، مزيد من الصلاحيات لبرلمان اسكتلندا. هذه التعهدات حولت في الحقيقة نتيجة الاستفتاء الحاسمة، إلى بداية وليس نهاية. بداية لسلسلة من الجدل والمناقشات حول طبيعة الصلاحيات الموعودة وزمنها وطريقة نقلها، لكن البداية الأخطر جاءت من إنجلترا نفسها، من أولئك الذين بدأوا يشعرون أنهم مواطنون يقتربون من الدرجة الثانية قادمين من الأولى، وفق التشريعات التي اعتُمدت في منح أقاليم المملكة الأخرى (ويلز، واسكتلندا، وإيرلندا الشمالية) الصلاحيات تلو الأخرى. وهي أقاليم تشكل مع إنجلترا المملكة المتحدة، وليس بريطانيا "العظمى" التي لا تشمل إيرلندا. كما على الجانب الاسكتلندي في الشمال قوميون، على الجهة الإنجليزية يوجد مقابلون لهم. وهؤلاء يطرحون نقطة خطيرة تتمثل في أنه لا يجوز أن تكون لنواب اسكتلندا أصوات في مجلس العموم في لندن، بينما يتمتعون بأصوات مستقلة في برلمانهم في إدنبرة. كيف يمكن أن تكون لهم قوة التشريع في منطقتين ضمن المملكة المتحدة؟ المتشددون الإنجليز بدأوا يطالبون علانية بإنشاء برلمان إنجليزي، ليس بالضرورة أن يكون مقره في العاصمة، بل في أي مدينة أخرى في إنجلترا. إنها وصفة بطيئة لأولئك الذين يتحينون الفرصة للإعلان عن رغبتهم في انفصال مَنْ؟ إنجلترا! عمن؟ عن المملكة المتحدة! هذا الطرح ليس سوى فانتازيا قومية (غير وطنية اتحادية)، لكن التاريخ شهد "فانتازيات" كثيرة غدت حقائق، بعضها أنتج خراباً، وبعضها الآخر أحدث اضطرابا شبه مستدام. الاستفتاء الذي حسم موضوع استقلال اسكتلندا عن المملكة المتحدة، أحدث زلزالا دستوريا، ليس محصورا فقط بوعود لندن لإدنبرة بمزيد من السلطات، بل أيضا بصلاحيات يطلبها الويلزيون والإيرلنديون والإنجليز أنفسهم. هذا الزلزال وصلت تردداته إلى مناطق شتى في العالم، بدءاً من الجار الأوروبي (في فرنسا وإسبانيا وإيطاليا وقبرص وغيرها) وليس انتهاء بالكردي السوري أو العراقي. كثير من القوميين الاسكتلنديين ظهروا على الملأ ليؤكدوا أنهم يرغبون في الانفصال ويسعون إليه، ليس لأسباب قومية، وإنما لأسباب سياسية واقتصادية، إلا أنهم لا يقولون الحقيقة في ذلك. فعلى الجانب السياسي يحصلون على المزيد من الصلاحيات والسلطات، بل إنهم تلقوا وعوداً رسمية معلنة بزيادتها. واقتصادياً، تثبت كل المعطيات أنهم لن ينعموا بالرخاء الذي يحلمون به. فالاستقلال لا يوفر حلولا للمشاكل أو المصاعب الاقتصادية. كل تحرك في هذا المجال يأتي بدافع قومي. فهذا الأخير ما زال يدغدغ المشاعر في كل مكان، حتى الإنجليز الذين يفترض أنهم الطرف الأقوى في الاتحاد، باتوا ينظرون للأمر من ناحية قومية بحتة. ولديهم الكثير من المبررات. صحيح أنها ليست مقبولة في الوقت الراهن من الأحزاب السياسية الرئيسة، ولكن لننظر فقط إلى ارتفاع شعبية القوميين الإنجليز في السنوات الأخيرة، وكذلك الأمر بالنسبة للفرنسيين والكاتالونيين في إسبانيا وغيرهما. القوميون الذين لا يزالون يخشون الاعتراف الصريح بهذه الحقيقة، لأسباب تتعلق بتجنب اتهامهم بعدم الوطنية، سيتخلصون من خشيتهم هذه لاحقا. ولا شك في أن الأداة الوحيدة للإبقاء على وحشية القومية خامدة، أن تتعزز اللامركزية، ليس في أقاليم بريطانيا، بل حتى في مدن الأقاليم نفسها. لقد صرخ الاسكتلندي جوردون براون رئيس وزراء المملكة المتحدة السابق في وجه السياسيين طالبا منهم (بعد الاستفتاء) الإيفاء بوعودهم وزيادة مستوى وحجم السلطات لبرلمان وحكومة اسكتلندا. فهو المؤيد الصلب للاتحاد لا للانفصال يعرف أكثر من غيره، أن المشاعر القومية جاهزة للتأجج في كل الأوقات. وإن الذين رفضوا الانفصال اليوم، قد ينضمون إلى معسكر الإنفصاليين لاحقا. دون أن ننسى أن اسكتلندا منحت لأول مرة في التاريخ المراهقين، اعتبارا من سن السادسة عشرة حق التصويت. إن أهم ما يحمي المملكة المتحدة حاليا، ليس استفتاءات (بصرف النظر عن نتائجها) بل وطنية عادلة، ولا مركزية أكثر عدلا.
إنشرها