Author

الحذر من النجاح

|
مختص بالأسواق المالية والاقتصاد
يسعى الإنسان إلى النجاح في الحياة وعلى المستوى الشخصي، وكل منا يفهم النجاح بطريقته الخاصة، فمنا من يراه بكثرة المال وقوة النفوذ والسلطة، ومنا من يراه في السعادة الشخصية والمحبة والقبول من الناس، ومنا من يراه في الصحة ومد يد العون للآخرين، أو من يراه بالقيام بالأعمال الصالحة التي ترضي الله وتشفع له في الآخرة. غير أن النجاح بجميع الأحوال يعني تحقيق الإنسان لهدف أو أهداف وضعها لنفسه، أو تحقيقه لأمنيات وآمال كان يرجوها، أي أنه لا يمكن الشعور بالنجاح تجاه أمر لم يكن هدفا رئيسا للشخص أو أمنية وضعها في خياله. وقد يأتي النجاح مبكرا وقد يتأخر كثيرا وقد لا يأتي أبدا، وبكل الأحوال لا شيء يأتي دون مقابل، ولا شيء يستمر دون جهد، وقيل قديما الوصول إلى القمة أسهل من المحافظة عليها. لماذا الحذر من النجاح؟ الإنسان يسعى طوال حياته إلى النجاح، وإن تحقق له ما يريد، فسيجد نفسه في ورطة كبيرة تجبره على التفكير في الخطوة التالية، ماذا بعد النجاح؟ هل يقوم بإعادة تعريف النجاح ليشمل جوانب أخرى لم تكن ضمن أهدافه وأمنياته، أم يعيد تعريف النجاح برفع حدة مكتسباته وتعظيمها؟ على سبيل المثال، من حقق المال، فقد يرى النجاح بزيادة المال، ومن حقق النفوذ والسلطة فقد يرى النجاح في سعيه إلى المزيد من النفوذ والسلطة، فيكون الشخص كالمدمن الذي لا يشعر بالرضا إلا بالمزيد من الجرعات بشكل متواصل. لذا نجد أن الخيار الأول المتمثل بإعادة تعريف النجاح ليشمل أهدافا جديدة قد يعطي نتائج مرضية تجعل الشخص يستمر في عطائه وشغفه للحياة وتبعده عن شبح الفشل والكآبة. غالبا لا يأتي النجاح إلا بالقبول بحد معين من المخاطرة، تماما كتنمية رأس المال التي لا تتم إلا بالمخاطرة بالمال، أو الحصول على شهادة علمية لا يتحقق إلا بالمحاولة على حساب الوقت والجهد، أو المحافظة على الصحة على حساب التقيد بنظام غذائي معين ومزاولة نشاطات بدنية متعبة. كما إن النجاح يتحقق أحيانا بالحظ وكنتيجة طبيعية للعشوائية التي أوجدها الله في حياتنا لحكمة من عنده، فالمعروف أن هناك عشوائية في أطوال الناس وأوزانهم وفي تفاوت درجات الذكاء والشعور بالسعادة، كذلك في نتائج الامتحانات ووزن حبيبات القمح وفي فوز فريق رياضي على آخر، وهكذا. لذا من الضروري على من حقق نجاحا معينا في أي مجال، وهذا يشمل الأفراد والمؤسسات، البحث عن أسباب النجاح والتأكد من فهم مسبباته وعدم نسب ذلك إلى عوامل غير صحيحة، ليتمكن الشخص من المحافظة على مكتسبات النجاح وديمومته. الأمثلة كثيرة والشواهد وفيرة لأناس حققوا نجاحات صارخة في مجالات عديدة، في الفن والموسيقى وفي الشعر وفي الرياضة، بل حتى في السياسة والمناصب الإدارية والتجارة، ومن ثم خفتت أضواؤهم وطويت صفائحهم في عالم النسيان. ما سبب الفشل الذريع عقب النجاح الوسيع؟ يفشل الناجح لعدة أسباب، أولها يعود إلى قيام الشخص الناجح بإرجاع النجاح ونسبه إلى عوامل غير صحيحة أو غير دقيقة، وذلك عندما يظن الشخص أن النجاح تحقق بسبب أسلوبه القيادي أو ذكائه الحاد أو المنهج الذي اتبعه، ويتناسى تماما عوامل أخرى عديدة وظروفا مكانية وزمنية كانت سببا في نجاحه، إلى جانب دور الحظ في ذلك. من المفارقات العجيبة أن الأفراد والمؤسسات يبحثون في أسباب الفشل ويدرسونها بشكل جيد ولكن نادرا ما يقومون بعمل ذلك لمعرفة أسباب النجاح! فالنجاح لهم هو الغاية المنشودة وطالما أن الأمور تسير بشكل جيد فلا داعي للتفكير فيها ولا إلى إعادة النظر فيها، بتجاهل تام لحقيقة عدم الديمومة وأن ما يأتي سريعا يذهب سريعا. كما أن النجاح غير المنضبط يؤدي إلى التراخي والركون، والجنوح نحو الاستمتاع بما تحقق والاعتقاد الزائف بأن الأمور مسيطر عليها في جميع الأوقات. معروف أن النجاح يولد الثقة في النفس، غير أنه كذلك قد يؤدي إلى الغرور والاستهتار، ومن ثم التدحرج والسقوط. في كثير من الحالات يصطدم الشخص بمبدأ بيتر الشهير، نسبة إلى لورنس بيتر الذي استحدث هذا المفهوم في عام 1969، حيث يقول فيه إن المطاف ينتهي بالشخص في وظيفة لا يستطيع أداءها، والسبب أن النجاح الظاهر يكافأ بفرص أكبر وأكبر، إلى درجة القضاء على الشخص. كما أن ضغوط النجاح والخوف من الفشل، إن لم تتم إدارتها بشكل صحيح، فقد تؤدي بالشخص إلى المكابرة ومحاولة الاستمرار بأي ثمن، تصل بالشخص أحيانا إلى ارتكاب جرائم أخلاقية لتغطية فشله والمحافظة على ما تحقق من نجاح. النجاح يحتاج إلى إدارة جيدة للسيطرة على عواقب النجاح وتبعياته، كما أن الشخص الناجح بحاجة إلى التواضع والتمتع بالحكمة والحلم، ولا سيما أن النجاح يصحبه نقد وانتقاد، وبعض من الحسد والحساد، بشكل قد يجعل الناجح يخرج عن طوره ويصبح في موقف دفاعي دائم، ما يجرح صورته أمام الآخرين ويسارع في فشله. أما النجاح المبكر فهو أشد خطرا على الشخص، كون ذلك يتطلب مزيدا من الحكمة والتعقل، واستيعاب ما يعنيه النجاح. من أخطر تبعيات النجاح المبكر أنه يؤدي أحيانا إلى التوقف عن التعلم والإبداع، نتيجة إحساس الشخص بأنه وصل إلى غايته وأدرك مبتغاه، ليجد نفسه بعد فترة من الزمن بعيدا عن مكامن قوته ومهارته، وضعيفا في منهجيته التي وظفها سابقا لتحقيق النجاح الذي حققه. النجاح أمر محمود يبحث عنه جميع الناس الأسوياء، غير أن هناك ضريبة لكل شيء في الحياة، والنجاح يحتاج إلى "صيانة" مستمرة سواء على صعيد الأفراد أو المؤسسات، والأمثلة كثيرة لحالات انقلب فيها النجاح المذهل إلى فشل مذل في غمضة عين، فالحذر كل الحذر من النجاح.
إنشرها