Author

اللامركزية والتنافسية.. شرطا الارتقاء بالتعليم

|
يدرك الجميع وعلى رأسهم صناع القرار الوطني أن جودة التعليم ركيزة أساسية في تحقيق التنمية والنهوض بالمجتمع نحو العالم الأول. وقد تكون تجارب تلك الدول التي خلعت رداء التخلف ولحقت بركب التقدم الصناعي والتقني نموذجا حيا ودليلا واضحا على أهمية التعليم في تطور الأمم ورقيها. لكن السؤال ما مستوى جودة التعليم المطلوبة التي تضمن التأثير الإيجابي وتسهم في تحقيق التنمية؟ والأهم كيف نستطيع تحقيق ذلك بفاعلية وبأقل تكلفة ووقت وجهد؟ لقد مضى زمن طويل والدولة تنفق بسخاء على قطاع التعليم بتخصيص نسبة عالية من الموازنة العامة ولكن مع الأسف دون تطور فعلي وجوهري يرتقي بالعملية والبيئة التعليمية. وإذا كانت مناهج وطرق التدريس على افتراض أنها محل جدل وخلاف فلسفي وفكري ولا يمكن الوصول إلى إجماع حول معيار جودتها ومحتواها، فما بال المباني المدرسية التي تعاني سوء التصميم والتنفيذ والصيانة؟! هذا القصور في الجانب المادي الهندسي دليل على عجز إداري وقصور في عملية صنع القرار الحكومي وهو جلي واضح لا خلاف فيه. هذا الإخفاق في التعليم سواء في المدخلات أو العملية التعليمية أو المخرجات مرده سوء النظام الإداري والمالي الحكومي. لأن الإطار الإداري المؤسسي يحدد أسلوب وكفاءة وفاعلية صنع القرار ولذا فإن جوهر المشكلة التعليمية وغيرها من القضايا العامة في الأساس إدارية. ولذا فإن العيب التربوي مرده قصور إداري في المقام الأول. فالإدارة نظاما وممارسة معنية بصناعة القرار أي يقع على عاتقها عملية البحث عن البدائل وتقييمها واختيار البديل الأفضل والمناسب. وأحسب أن انخفاض مستوى أداء التعليم يشير إلى ذلك الخلل الإداري الذي يقف عائقا أمام جميع محاولات التطوير. فنظام الإدارة الحكومية يعاني من التشرذم وثقافة الاستحواذ وعدم وجود استراتيجية وطنية شاملة يراد تحقيقها خلال الـ 30 سنة المقبلة إضافة إلى أن النظام المالي عقيم ما زال يعتمد ميزانية البنود وإجراءات معقدة للصرف لا ترتبط بالأداء الحكومي وتحسينه، ظاهرها الحفاظ على المال العام ولكن هي في الواقع مخترقة ومضللة تخفي وراءها فسادا إداريا وماليا بل إنها تشرعن له. هذا النظام الإداري أفرز ثقافة تركز على تطبيق الإجراءات دون المحاسبة على النتيجة والتأثير النهائي، ما أدى إلى تراخ إداري دون ضغوط تذكر على المسؤول الحكومي للتطوير والارتقاء بالخدمة. فالمتوقع من المسؤول هو إتمام المهام الروتينية وإبقاء الأمور على ما هي عليه دون مبادرات جريئة وأفكار إبداعية وقرارات استراتيجية، هكذا ينغمس المسؤول في الإجراءات الروتينية وتتكون ثقافة العمل من أجل العمل وليس من أجل التطوير وإحداث تغيير إيجابي في المجتمع. فالكل تراه في عمل دؤوب منهمكا في التوقيع والشرح على أكوام من المعاملات الورقية لا تسمن ولا تغني من جوع ليذهب كل ذلك الجهد هباء منثورا. هذه الحركة الدؤوبة إنما هي في دائرة من الإجراءات الروتينية العقيمة تجعل الإداريين يقبعون في المستوى من الأداء ذاته ولا يرتقون درجات أعلى في سلم التنمية. كما تعزز المركزية الشديدة هذا التراخي والاستمتاع بمنطقة الراحة إذ أصبح المديرون في مستويات الإدارة الوسطى والإشرافية وهم من يقع على عاتقهم تحويل السياسات إلى مشاريع وخدمات وأنشطة محبطين سلبيين مسلوبي الإرادة دون صلاحيات تمكنهم من أداء أعمالهم على الوجه الأكمل. وهذه المركزية إنما تتم ممارستها من قبل الإدارات العليا لأنهم آثروا التشاغل بالأعمال الروتينية التي لا تتطلب تصورات مستقبلية أو أفكارا تجديدية فهذه إما أنهم لا يستطيعونها ويفتقدون المهارات الذهنية وإما أنهم لا يرغبون في المخاطرة وسبر أغوار المستقبل والاكتفاء بالعمل الروتيني واستخدام السلطة للتحكم والسيطرة فحسب. هذا الوضع الإداري المتأزم يلقي بظلاله على أداء وزارة التربية والتعليم كأحد الأجهزة الحكومية التي يتعين عليها التعامل مع هذه التحديات الإدارية وهي تسعى لتطوير التعليم. وأخشى أن المناهج وطرق التدريس استحوذتا على اهتمام المسؤولين في قطاع التعليم ظنا منهم أنهما مكمن التطوير وجوهر المشكلة فراحوا يسخرون المخصصات المالية والموارد البشرية لتطويرهما دون أن يلقوا بالا لتحديات التنظيم الإداري والقيادة الإدارية. وبهذا قد يضعون العربة أم الحصان فلا يمكن تصور أن يتم تطوير المناهج وطرق التدريس والبيئة المدرسية والعملية التعليمية دون أن يكون هناك تنظيم إداري فاعل يعتمد على منح المسؤولين في كل مستوى إداري صلاحيات وأدوارا تتناسب مع مسؤولياتهم وتحقق تطلعات الوزارة في تطوير التعليم. لقد حان الوقت لإدراك أن التعليم مهنة تجمع بين الفن والعلم وأن هناك مساحة واسعة من الإبداع والابتكار التي يجب أن يسمح بها. كيف نخرج طلابا بفكر إبداعي ومهارات الاتصال وقدرة على التعبير وقناعات ورؤى مستقبلية ومدير المدرسة مقيد بنظام بيروقراطي لا يمنحه صلاحيات إدارية ومالية يكاد يكون تقييمه لأداء المعلمين ينحصر بمراقبة حضورهم وانصرافهم. فلا يمنح دورات تدريبية ولا مكافآت للمتميزين ولا يملك ترقيتهم ولا معاقبة المقصرين منهم ولا يمكنه إعداد مواد اختيارية خاصة بمدرسته. إن مشكلة التعليم هي في غياب المنافسة بين المدارس ما يجعل الجميع متساوين دون تمييز ولكن ليس من العدل المساواة! فالمساواة بين الغث والسمين تقتل الطموح وتطفئ الحماس ومع مرور الوقت تفقد الدافعية نحو البحث عن الأفضل. إن منح مديري المدارس الاستقلالية الإدارية والمالية فيما يجعلهم مسؤولين مسؤولية كاملة عن مستوى خريجيهم وبذل ما في وسعهم لجعل العملية التعليمية ممتعة ومفيدة لتكون عملية مستدامة بتعليمهم كيف يتعلمون ويضيفون المعلومات لفهم ما يدور حولهم. إن هناك مدارس خاصة متميزة يمكن استنساخ تجربتها وتعميمها بشرط توفير المعطيات الإدارية نفسها. الفكرة الأساسية هنا هي ربط الأداء بالنتيجة والنتيجة هي طلاب متميزون، فالمهم ليس المنهج وليس المعلم، ولكن من يضع المنهج ومن يختار المعلم ومن يوجه العملية التعليمية ومن يصنع البيئة التعليمية والتجربة تقول: إنه مدير ومديرة المدرسة فهما الأقرب والأكثر دراية وحرصا على أداء متميز.
إنشرها