Author

غبار الأراضي البيضاء

|
اعتدنا على أن تغمرنا كميات كبيرة من الأتربة طوال العام، حيث تحتم علينا ظروف المنطقة الطبيعية تقبل هذه الأتربة بصدر رحب وربما تفاديها -إذا استطعنا- بعدم الخروج أيام الغبار الشديد أو بالسفر والهرب عنها لمن يقدر. لكن ما تصنعه الأراضي البيضاء داخل النطاق العمراني من مصدر إضافي لهذه الأتربة قابل للتفادي بالكامل، فهو يحدث باختيار الإنسان ويخضع لسيطرته وتحكمه، فتركه هذه المسطحات الشاسعة معرضة للهواء الطلق داخل المنظومة المدنية يجعلها تزداد اختلالا كل يوم. تعتبر الأراضي البيضاء مصدرا مفتعلا للغبار بالنظر إلى ما يقع حول الأرض من آثار إنسانية محدثة. يشكل هذا الغبار، إضافة إلى العديد من الآثار السلبية الأخرى، قائمة طويلة من الأذى الحاصل بسبب انتشار الأراضي البيضاء داخل النطاق العمراني، والغبار مجرد مثال جيد لذلك. أتساءل هل تؤخذ مثل هذه السلبيات البيئية وغيرها من السلبيات في الاعتبار حين ينظر في مسألة احتكار الأراضي، أم أن التحكم في الأسعار وغلاء الأراضي هو الرابط الأهم والوحيد الذي يستحق النقاش؟ تنظر هيئة كبار العلماء هذا الأسبوع في موضوع فرض الرسوم على الأراضي البيضاء كما تشير الأخبار، وهو اليوم موضوع مكرر يحوز قدرا كبيرا من الجدل والتمنيات. لا أعلم إذا كان النظر في هذه المسألة تقييما لمشروعية فرض الرسوم فقط، أم بحثا عن حلول ملائمة مقبولة شرعا لما تتسبب فيه الأراضي البيضاء من قضايا وعلى رأسها الاحتكار. ينطوي احتكار الأراضي على بعدين مختلفين: أولا، التأثير المباشر على العرض والطلب باحتكار الكميات، وثانيا احتكار المكان ولو حاز المالك كميات محدودة من الأراضي والأمتار، مثل احتكار الشواطئ ومراكز المدن وهو احتكار يرتبط بخصائص الأرض. تتداخل كلتا الحالتين لدينا، وفي كليهما تتأثر الأسعار ويزيد الغبار. فشل كل من راهن في السنوات الأخيرة الماضية على صدور قرارات بفرض الرسوم على الأراضي البيضاء وتصحيح أسعار العقار، على الرغم من أن التكهنات القوية لا تزال موجودة. لكن دراسة وزارة الإسكان الأخيرة وخبر رفعها لهيئة كبار العلماء يبدوان أكثر جدية من سابقيهما. وربما إن نجح تبعا لذلك فرض الرسوم على الأراضي البيضاء سيكون أعظم إنجازات وزارة الإسكان التي أصبحت في حاجة ماسة إلى إنجازات حقيقية لكسب الثقة أكثر من أي وقت مضى. لا أعتقد باستجابة سوق العقار بطريقة مباشرة وسريعة لفرض الرسوم، ولكن مع ذلك أرى أهمية فرضها في أسرع فرصة. ستكون الاستجابة بطيئة، لأن تطبيق مثل هذا الأمر سيكون على مراحل -على الأقل حتى الانتقال لمرحلة التنفيذ الكامل، ما قد يسمح بإعادة تشكيل خريطة العرض والطلب وتوجه الاستثمارات نحو مصادر القيمة الأفضل مثل الأراضي القادرة على تحقيق العائد الأكيد. تشير أيضا التوقعات إلى فرض الرسوم على الأراضي الكبيرة التي تتجاوز أربعة آلاف متر مربع، وهذا يعني ارتفاع الجدوى الاستثمارية للقطع الأصغر حجما وارتفاعا أكبر في أسعارها مقابل انخفاض في أسعار القطع الكبرى، وهذا قد يعارض في البداية هدف تخفيض الأسعار ومحاربة الاحتكار الذي يرفعها. تعبر بعض الجهات الحكومية عن عجزها عن توفير الأراضي المناسبة لتشييد مبانيها، من ذلك استمرار وجود المدارس المستأجرة ناهيك عن إعلانات البحث عن المباني المعروضة للإيجار من مختلف الجهات الحكومية في الصحف اليومية. ولكن القضية هنا أن الجهة التي تشرف على الخدمة تعبر وتصرح عن عجزها بعد أن تنكشف حاجتها. ولكننا لا نسمع، بالاتجاه المعاكس، عن تقدير كمية النقص في مواقع الخدمات على مستوى الحي أو المدينة وما يقابل ذلك من أراض بيضاء غير مستغلة داخل هذا النطاق. "اتجاه" التقرير عن الحقائق محفز قوي لمحاصرة السلبيات والقضاء عليها. يشكل الإفصاح أهم قضايانا التي تعطلنا عن تحقيق الكثير من الأمور التنموية المهمة. إذا غاب الإفصاح الجيد على الرغم من وجود الضغط والمتابعة المستمرة من الرأي العام، فهذا يعني أن ضغط إخفاء المعلومات أقوى بكثير. تسقط برأيي جدية أي جهة يرى القائمون عليها جدوى فكرة ما ولا يفصحون عن مستوى فهمهم لها بشكل دوري وواضح ومحترم. حتى الجهات المحايدة التي لا ترى ارتباطها المباشر بمثل هذه القضايا تخضع لمسؤولية اجتماعية ووطنية بالإفصاح عما تملك من معلومات تنقذ من يخطئ من مغبة الاستمرار في الخطأ، وهذا يعني أن المجال مفتوح لكل تقرير يساعد على المزيد من الفهم سواء كان بيئيا أو اجتماعيا أو اقتصاديا.
إنشرها