العالم

حرب غزة ومفاوضاتها غير المباشرة .. إلى أين؟

حرب غزة ومفاوضاتها غير المباشرة .. إلى أين؟

حرب غزة ومفاوضاتها غير المباشرة .. إلى أين؟

لم يشكل انهيار المفاوضات الإسرائيلية ـ الفلسطينية مفاجأة لأحد، إذ إن هذه المفاوضات غير المباشرة، التي كانت تجرى عبر الوسيط المصري، ما كان يمكن توقع نجاحها أصلاً. معلوم أن المفاوضات تجرى في العادة بين طرفين متكافئين، ولو بالمعنى النسبي، أو تجرى بين طرفين استطاع أحدهما (أي القوي) تطويع الطرف الآخر (أي الضعيف) لمطالبه أو لمصالحه، أو نتيجة تحول ما في تعريف أي من الطرفين لطبيعة الصراع الدائر، وفهمه لمصالحه المستقبلية. هكذا، فإن كل هذه العناصر غير متوافرة في مفاوضات القاهرة، بين طرفيها المعنيين، إذ إن إسرائيل أتت إلى المفاوضات بغرض استكمال الحرب المدمرة التي شنتها على الفلسطينيين في قطاع غزة، بوسائل سياسية، مركّزة على نزع سلاح المقاومة، وتطويع حركة حماس لإملاءاتها، وفق صيغة "هدوء مقابل هدوء"، قبل إبداء أي مقابل. أما "حماس" فقد أتت إلى المفاوضات، ضمن وفد فلسطيني موحد برئاسة السلطة في الضفة، بهدف ترجمة صمودها ومقاومتها، من خلال انتزاع قرار من إسرائيل برفع الحصار عن غزة، بفتح المعابر، ورفع القيود عن التحويلات المالية، والسماح بإنشاء ميناء بحري. واضح من كل ذلك أن أغراض الطرفين من المفاوضات كانت جدا متباينة، وهذا طبيعي، فإسرائيل تتصرف على أساس أنها منتصرة، وأنها أثخنت "حماس" بالجراح، ولا سيما أنها جعلت الفلسطينيين يدفعون ثمنا باهظا يقدر بألفي شهيد وأضعافه من الجرحى، مع دمار هائل في الممتلكات الخاصة والعامة والبني التحتية. في حين تعتقد "حماس" أنها انتصرت، وأنها استطاعت هذه المرة إيلام إسرائيل، من خلال الصواريخ التي هطلت على المدن الإسرائيلية، أو من خلال تكبيدها وحدات النخبة الإسرائيلية خسائر فادحة. واضح أن ثمة عقدة عند الطرفين جعلت كل طرف يتشبث بموقفه، فإسرائيل لا يمكن أن تتسامح مع إطلاق الصواريخ على مدنها، وهي حالة غير مسبوقة، ويمكن أن تودي بالحكومة الإسرائيلية، التي باتت تتهم من كل التيارات بأنها تهاونت في التصدي لحركة "حماس". ومن جهة "حماس" فإنها تبدو في وضع حرج، وكأنها تخوض معركة المصير على وجودها، فهي السلطة المسؤولة عن قطاع غزة، وعن إطلاق الصواريخ، بمعنى أنها ستكون موضع مساءلة، بعد الحرب، عن ما جرى، وعن الثمن، تحت ثقل الخسائر البشرية والمادية التي تكبدها القطاع، وهو وضع يتطلب منها التشدد، بشأن رفع الحصار، لأن ذلك وسيلتها لتحشيد الرأي العام، ولتعزيز مكانتها، ولا سيما إزاء السلطة في الضفة. #2# مع ذلك فإن المسؤولية عن فشل المفاوضات تقع على عاتق الطرف الإسرائيلي، من الأساس، لأن مطلب رفع الحصار عن غزة، حيث يعيش قرابة مليونين من الفلسطينيين، مطلب طبيعي، ولا سيما بعد حصار دام أكثر من سبعة أعوام، عاش فيه الغزيون وكأنهم في سجن كبير. وحتى مطلب إقامة ميناء فهو حق للفلسطينيين إذ إن اتفاقات أوسلو (1993) كانت قد نصت على إقامة ميناء ومطار، أيضاً، كما نصّت على حقهم في معبر آمن يربط، ويتيح حرية الحركة، بين الضفة وغزة. والواقع فإن إسرائيل حولت المفاوضات إلى مهزلة، كعادتها، إذ إنها لا تتعامل مع الفلسطينيين كطرف مكافئ، ولا تعتقد بوجود أي حقوق لهم، بدليل أنها تتصرف على ذات النحو مع السلطة في الضفة. فرغم وجود قيادة "معتدلة"، على رأسها قيادة من طراز الرئيس الفلسطيني محمود عباس، منذ تسعة أعوام، إلا أن المفاوضات بينها وبين إسرائيل لم تتقدم بوصة واحدة، رغم نبذ أبو مازن للمقاومة، وتأكيده مراراً أن المفاوضات هي الخيار الوحيد للفلسطينيين، ما يؤكد أن القصة لا تقتصر على "حماس"، وليست بسبب المقاومة، وإنما هي منهج ثابت لإسرائيل في إنكارها حقوق الفلسطينيين. على أية حال، إن الحرب الإسرائيلية على غزة خلخلت وضع إسرائيل في ثلاثة وجوه، أولها، أن هذه الدولة التي يفترض أنها تأسست كملاذ آمن لليهود في العالم لم تعد كذلك، إذ إنها باتت أخطر مكان يمكن أن يتواجد فيه اليهود، بسبب السياسات التي تنتهجها، والحروب العدوانية التي تشنّها بين فترة وأخرى. وثانيها، أن إسرائيل فقدت مكانة الضحية، في نظر الرأي العام العالمي، وباتت بمثابة دولة تمارس الإرهاب، وتسيطر على حياة شعب آخر بالقوة، وترتكب جرائم حرب ضد الفلسطينيين العزل من السلاح. وثالثها، أن صورتها كدولة رادعة، وكصاحبة الجيش الذي لا يقهر، انحسرت بدليل خوضها نحو 14 حرباً منذ قيامها (1948)، وأنها لم تعد تلك الدولة التي يعتمد عليها كقاعدة لحماية المصالح الأمريكية في المشرق العربي، بعد أن جاءت صواريخ "باتريوت" الأمريكية لحمايتها من الصواريخ العراقية (2001)، وبدليل عدم قدرتها على الاحتفاظ بأراض تحت سيطرتها، مع انسحابها الأحادي من جنوب لبنان (2000)، وقطاع غزة (2005)، وضمن ذلك إدراكها مخاطر معاودة احتلال غزة. من الجهة المقابلة، فقد روج صمود غزة، وبطولات مقاوميها، لانطباعين خاطئين ومضرّين، أولهما، تصوير أن "حماس"، مع باقي الفصائل، باتت بمثابة جيش مع طائرات وصواريخ، وكأنها أضحت تشكل قوة موازية للجيش الإسرائيلي، وثانيهما، أن قطاع غزة بإمكانه التحول إلى منطقة، أو قاعدة، عسكرية لتحرير فلسطين. طبعاً النزعة الأولى غير صحيحة، ومضللة، وتنطوي على مبالغة رغبوية لا تسهم في تكوين وعي مناسب لواقع القدرات الفلسطينية ومحدوديتها، ولا في تكوين صورة صحيحة عن قدرات العدو. أما النزعة الثانية، فهي تحمّل قطاع غزة الذي يقطن فيه مليونا فلسطيني تقريبا، في 1.3 في المائة من مساحة فلسطين، أو 6 في المائة من مساحة الدولة الفلسطينية المفترضة، عبء التحرير، وهزيمة إسرائيل، علما أن هذه القطاع محاصر ويفتقر إلى الموارد، ويعتمد في إمدادات الكهرباء والمياه والطاقة على الدولة الإسرائيلية. وربما ينبغي لفت الانتباه، أيضا، إلى أن هاتين النزعتين "الاحتفائيتين" تفضيان بدورهما إلى إشاعة توهم مفاده أن ثمة نوعا من التكافؤ بين إسرائيل والفلسطينيين، ما يترتب عليه إضعاف الصورة عنهم كضحايا، وكمستضعفين، وبالتالي حجب صورة إسرائيل باعتبارها دولة استعمارية وعنصرية وعدوانية. بديهي أن رواج انطباعات كهذه هو نتاج تلهّف الفلسطينيين، والعالم العربي، لأي انتصار على إسرائيل، ونتاج التعطّش لأي ضربة توجه لها، بيد أن ذلك قد يفيد في تقوية المعنويات وتعزيز روح الصمود والمقاومة، لكن في ما يخص استراتيجيات الصراع ضد العدو فإنها لا تكفي، إذ إنها لا تؤثر في معادلات موازين القوى والخطط العسكرية. الآن، تبدو الصورة معقدة، فلا أحد من الطرفين يمكن أن يتنازل عن مطالبه، وبالطبع ليست إسرائيل من يفعل ذلك، تبعا لتاريخها، وطبيعتها، وفهمها لذاتها، كما يصعب توقع أن تتنازل "حماس" عن مطالبها، لأنها تفهم أن ذلك يعني ضياعها. مع ذلك، واضح أن الطرفين لا يريدان الاستمرار في الحرب، كل لأسبابه، فإسرائيل تعتقد أنها فعلت ما عليها، و"حماس" تعتقد أنها أثبتت ذاتها. إزاء ذلك، ثمة احتمال أن تتوقف هذه الحرب عمليا، من دون مفاوضات واتفاقات، مع الاستمرار في الأمر الواقع. أما الاحتمال الآخر، وهو الأرجح، فقوامه إيجاد نوع من تسوية مع السلطة الفلسطينية، ما يجنّب "حماس" الإحراج، ولعل هذا ما يحاوله الرئيس الفلسطيني محمود عباس. مع ذلك فإن استمرار المواجهات، أو استمرار الهدوء، سيتوقف على رفع الحصار عن القطاع. ولا ننسى في خضم ذلك أنها الحرب الثالثة على غزة في غضون ستة أعوام. كاتب وباحث فلسطيني
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من العالم