Author

درء الخطر العربي (3) : دروس مستفادة !

|
أشرت في المقال الأول عن أن التقارب العربي خطرٌ ينبغي أن يُدرأ، وتناول المقال الثاني موضوع البراجماتية كمنهج لتحقيق المصالح كل حسب قدره، ولماذا نجح هذا المنهج قبل "الحدث العظيم الأول" وأنه لن يجدي بعد تسونامي الموجة الثانية "للحدث العظيم الثاني"، فما الحدث العظيم الأول وما الحدث العظيم الثاني وما موجتي هذا الأخير؟ أما الحدث العظيم الأول، الذي زعزع أسس الثقافة العربية والمبادئ التي تقوم أمة محمد، فهو "نكسة 1967 م"، وبذلك يكون الحدث العظيم الثاني هو في مجمله ما أًطلق عليه "الربيع العربي" والذي من الأصوب والأدق أن يُعرّف "بالإرتداد الطبيعي للحدث العظيم الأول"، وأكثر تحديداً هي ثورة 25 يناير 2011 م وتصحيح مسارها في 30 يونيو 2013 م، والذي يًرجى بحصوله أن يًعاد ترسيخ المبادئ التي تقوم عليها أمة محمد وأسس الثقافة العربية. وإذاً سيُحسب لأهل أرض الكنانة الدور الأكبر في إنهاء تداعيات الحدث العظيم الأول السلبية وأن تعود الأمور لنصابها الطبيعي بقرارهم الحر، بعد أن وقعوا في مكيدة استمرت تداعيتها على مجمل المنطقة العربية لعقود طويلة، والأرجح أن من يتفهم دروس التاريخ ويعيها سيتقبل هذا الرأي مًلخصاً لكامل الأمر، وما دام أن الأمر يتعلق "بقانون وحقائق": فماذا بعد؟ أو إلى أين ستؤول الأمور؟ أو ما هي النتيجة النهائية لهذا القانون وتلك الحقائق؟ سأبدأ في هذا المقال بتحليل العوامل التي ساهمت في صياغة التاريخ المعاصر واستخلاص بعض الدروس التي تربط السببية بالنتيجة، ولعله من باب أخذ العبرة وإعادة الانطلاق من حيث كان الوضع قبل الحدث العظيم الأول في مسار يحقق المصالح المشروعة للمنطقة العربية، ليس كذاك المسار المعيب الذي فُرض عليها بغير مشورتها وموافقتها وإرادتها، علينا أن نستذكر كيف تفككت المنظومة العربية تمهيداً لحصول ذاك الحدث المشؤوم؟ ولعل قليلٌ قد يجادل أن حقبة الخمسينات تعد وحتى ما قبل ذلك الحدث ذروة الازدهار المعاصر في أرض الكنانة، إلا أن حالة الاستقطاب التي تميل للاشتراكية قد اصطدمت بالتوجهات التي تميل لاقتصاد السوق التي تبنتها غالبية دول المنطقة المحافظة، وقد شكل ذلك المنفذ الذي تسلل منه أصحاب المصالح التي يتقاطع المعلن منها مع غير المعلن. وحيث ترآى أن التقدميين اتخذوا اتجاهاً تحررياً مع اعتماد التحالف مع الاتحاد السوفيتي، كانت الساحة مفتوحة مع الأغلبية على مصراعيها للدول الرأسمالية ومنهجهم البراجماتي في تحقيق مصالحهم في المنطقة، وما زاد في تمكينهم من نيل الفرصة السانحة أمامهم واستثمارها لصالحهم هو غياب الحوار المثمر لبلورة "فكرة القومية" والتوافق على مبادئها بما يراعي الجوانب السيادية والأسس التي يقوم عليها ميثاق الجامعة العربية، فتحين البراجماتيون لقائد فكرة القومية على محورين الأول فكر بفكر مضاد لفكره والثاني المواجهة المباشرة والتهديد بالتدخل العسكري، وكان المحور الأخير في حالتين، هما: (أ) بعد إذ يتحقق أثر المحور الأول بعزل مبادئ فكره والتفرد به، ولا بأس أن يأخذ الأمر وقته فليس هناك ضغط وقت كما أن الأمر يستحق العناء وبعضاً من التضحيات، أو (ب) عندما يجد الجد ولا يكون من الأمر بد حين يكون التماس مع ما حُدد مسبقاً من خطوط حمراء في المعادلة البراجماتية التي سبق نقاشها. ففيما يتعلق بالتحركات الفكرية المضادة، تأسس حلف بغداد عام (1955 م) مقابل معاهدة الضمان الاجتماعي العربي التي طُرحت في اجتماع القمة العربية بتاريخ 17/6/1950 م، وأمام الجمهورية العربية المتحدة التي تكونت عام (1958 م) وللحيلولة دون انتشار أساسها الفكري وُضع حاجز اقتصادي يصد هذا الأساس الفكري بإجراءات مغرية من قبيل تعديل اتفاقيات استخراج النفط والموافقة على تعميم الشركات البترولية، وذلك بدعوى ظاهرها مقبول وهو أن الدول التي تملكه أحق بأن تؤول عوائده لها. وأما فيما يتعلق بالمواجهة المباشرة، فقد جعل دعم ثورة عودة سلطان المغرب من قبل قائد الفكر القومي عام (1955 م) بعد عزل الأخير خصماً لدول الرأسمالية ينبغي تصفية فكره دون تصفيته حتى لا يتحول بطلاً أسطورياً، تلا ذلك تأميم قناة السويس وما تبعه من عدوان ثلاثي عام (1956 م) والذي تبعه انسحاب خرج بعده قائد الفكر القومي حينها زعيماً منتصراً، وليس آخر المواجهات ما كان سينتج من غلق مضيق العقبة من قطع إمدادات البترول الإيراني للكيان الغاشم والتهديد الصريح بتدخل أقوى دولة عسكرياً في حال تنفيذ عملية "فجر" والتي تلاها "الحدث العظيم" الأول الذي تم الإعداد له من قبل "المعتدي" على مدى (16) عاماً ولم يكن لكل ما بًيّت أن يضيع هباءً وليس في ذلك التوقيت تحديداً. والنتيجة أن وقع قائد القومية ضحية "وعد" لم يكن ليتم الالتزام به على أية حال، ويؤكد هذا الرأي أن من أوصل رسالة "تهديد" الرئيس الأمريكي جونسون هو غريمه اللدود فيما يُعرف "بالحرب الباردة" (وكان كوسيجين هو زعيم الاتحاد السوفيتي)، الذي أبلغ سفيره ليبلغ متزعم القومية بالأمر، ولكنه الدهاء البراجماتي الذي لا بأس بعده أن يُفرض الأمر الواقع الذي حصل فعلاً في الوقت الضائع على الأرض. وكما أنه قد وقع قائد القومية في الفخ حينها كذلك وقع في الفخ بعده آخرين بأسلوب أشد دهاءً، وما زلنا نشهد عديد "الضحايا" الذين وجدوا أنفسهم وسط أشراكٍ وحقول ألغامٍ نُصبت لهم بعناية، ويواجهون مصيراً محتوماً، فأياً كان تحركهم سواء كان ذلك بما يتفق مع من وضعوا الأفخاخ أو ضدهم أو ببقاء الأمور على حالها، فإن فيه حتفهم لا محالة، فالفخ الذي أُعد لا شك بشكل مُحكم. وها قد وعينا جزءاً من دروس التاريخ، وما رؤية ومقصد القيادة السعودية بوقوفها الحازم بجانب أهل أرض الكنانة، وأنها لن تكون معزولة وحدها، كما كان الأمر حين وقع الحدث العظيم الأول، في مواجهة الغرب يتفرد بها وهو الذي لن يقبل بتداعيات تسونامي الحدث العظيم الثاني، حيث كانت الشواهد واضحة من خلال انحيازها لدعم من أو التهديد بسحب الدعم ممن، ولعل ذلك توطئة مناسبة للمقال التالي بعنوانه الفرعي "كاد المريب أن يقول...!"، والذي سيًخصص لمناقشة كيف أن حالة الانفعال الناتج عن هول المفاجأة التي لم تكن في حسبان البراجماتيين سترغم أصحاب الأهداف الخفية (والأجندات غير المعلنة) إلى الافصاح دون إرادتهم أو وعيهم عما تخفي صدورهم، والتي هي حقيقة علمية مثبتة أخرى.
إنشرها