Author

كيفية الخروج من ورطة السياسات المترهلة

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
يتبين مما تقدم تحليله في المقالات الأخيرة تحت مظلّة السياسات الاقتصادية الراهنة، ومن ضمنها ما يتعلّق بالسياسة النقدية بخصوص السعر الراهن الذي يرتبط به الريال مع الدولار الأمريكي، أننا ندور في حلقة مفرغة، وسنظلّ ندور فيها ما دامت تلك المحددات على جمودها دون تغيير. الحلقة المفرغة التي من نتائجها: 1) عدم قدرة الاقتصاد الوطني على تحقيق التقدّم المأمول في طريق زيادة تنوّع قاعدته الإنتاجية، وتخفيف الاعتماد على دخل النفط، عبر زيادة استغلال الفرص الاستثمارية المحلية، والإسهام من ثم في إيجاد فرص العمل الملائمة للباحثين عنها من الجنسين. 2) ارتفاع كعب أسواق المضاربة على رؤوس الأموال "الأراضي، الأسهم" داخل الاقتصاد على حساب القنوات الإنتاجية، لانعدام أية تكاليف أو تنظيمات فعالة تحد من تلك المضاربات، في مقابل "تخمة" الإجراءات البيروقراطية المحيطة بتوجّه رؤوس الأموال نحو تأسيس المشروعات الإنتاجية، إضافة إلى الضعف الشديد على مستوى دعم تمويل المشروعات المتوسطة والصغرى منها. هذا إضافة إلى الفوارق الكبيرة بين العوائد السنوية على رأس المال الموظّف في المضاربات مقابل مثيله المُستثمر في أيّ من المشروعات الإنتاجية؛ وشتّان بين عائد سنوي على رأس المال المُستثمر في مخطط أراضي خام قد يتجاوز الـ 100 في المائة سنويا دون أية رسوم أو زكاة أو أية تكاليف أخرى، وبين عائد قد لا يتجاوز الـ 8 في المائة سنويا على رأس مال مستثمر في مؤسسة أو شركة، تقوم بالإنتاج والتوظيف لكنّها في الوقت ذاته تخضع للرقابة والمتابعة على نشاطها من عدّة جهات حكومية، ويقع عليها تحمّل عبء تكاليف متعددة تُخصم من إجمالي إيراداتها كتكاليف التشغيل والأجور والزكاة وأية رسوم تُفرض عليها من عدد من الجهات كالبلدية والعمل والمالية. 3) زيادة إدمان أغلب القطاعات الإنتاجية على الدعم المقدّم من الحكومة على استهلاك الكهرباء والمياه ومختلف مصادر الطاقة، التي فاقتْ فاتورتها الإجمالية خلال 2013 وحده سقف 460 مليار ريال، وكما هو معلوم لا تُدرج تلك المحفزات المكلفة في الميزانية الحكومية، ولو تمّ إدراجها في جانب المصروفات، لارتفعت من 976 مليار ريال إلى أكثر من 1.4 تريليون ريال، ولتحوّل الفائض المتحقق في الميزانية إلى عجز تناهز قيمته السالبة 280 مليار ريال! الإشكالية الأخطر في هذا الجانب؛ أنّ المستفيد الأكبر من هذا الدعم المكلّف اقتصاديا وماليا على مستوى شرائح المجتمع، هو الشرائح الغنيّة التي تتسم مساكنها بكثرة العدد وكبر مساحتها "زيادة أكبر في استهلاك الكهرباء والمياه والغاز"، إضافة إلى زيادة وسائل النقل المملوكة لديها "زيادة أكبر في استهلاك البنزين والديزل"، مقابل استفادة محدودة جدا بالنسبة للشرائح الاجتماعية والأُسر المستهدفة في الأصل بهذا الدعم الحكومي. 4) أمام كل ما تقدّم؛ هل من الممكن بالنسبة للفرد المواطن أن تبقى خيارات زيادة الرواتب، أو الإبقاء على مستويات الدعم الحكومي، أو توفير فرص العمل وفق هيكلة الاقتصاد الراهنة، أو حلول بقية التحديات كالإسكان وتدنّي مستويات الدخل والحد من أشكال الاحتكار إلى آخر تلك التحديات التنموية الجسيمة، أتساءل: هل من الممكن أنْ تكون ذات جدوى؟ واقع الحال يؤكّد أنّ الجدوى منها تتلاشى بمجرّد إقرارها، وهو أمر متوقع تماما بالنظر إلى عمق التشوهات التي تعتري هيكل الاقتصاد، التي أصبحت تطغى على أوجهه المتعددة! كما سبق وذكرتُ سابقا، ليست القضية مجرّد الحديث عن علاقة غير عادلة بين الريال والدولار الأمريكي وفق سعر مبادلتهما الراهن، على الرغم من الآثار السلبية التي خلّفتها تلك العلاقة المختلة! وأنّها أكبر من ذلك بدرجات كثيرة، فنحن في مواجهة مساحات واسعة جدا من التحديات التنموية الجسيمة، نشأتْ بالدرجة الأولى من جمود السياسات الاقتصادية التي مضى عليها أكثر من 44 عاما دون تغيير جذري عميق، انتقلتْ آثار قصورها وتأخّرها الطويل إلى أنْ أصبحتْ كالترسبات المتحجرة في مختلف قنوات الاقتصاد المحلي، أفضتْ إلى ما نشاهده في الوقت الراهن من هيكل اقتصادي لا يزال يعتمد بأكثر من 91 في المائة على دخل النفط، وإلى ما تلاه من بقية أشكال التشوهات العميقة الجذور من مضاربات حامية الوطيس على سوق الأراضي مرّة، ومرة أخرى على سوق الأسهم، وشبه أحجام عن استثمار أكبر قدر ممكن من رؤوس الأموال والثروات الوطنية في تنويع القاعدة الإنتاجية، منها ما هو خارج حدود البلاد بأكثر من 4.0 تريليونات ريال، ومنها ما هو غارق في رحى المضاربات الدائرة محليا. أمامنا حزمة واسعة من الحلول المفترض إقرارها، يأتي في مقدّمة تلك الحلول إعادة رسم وتطوير السياسات الاقتصادية بما يتناسب مع واقعنا الاقتصادي والاجتماعي الراهن، التي تأخذ بعين الاعتبار مواجهة التشوهات والترسبات التي خلّفها جمود السياسات الاقتصادية الراهنة، وضرورة تحرير الاقتصاد الوطني بالمنهجية التي تكافأ المنتج فقط وتسد الطريق على المحتكر والمضارب وكل من يقوم نشاطه على التكسّب بطرق غير مشروعة وغير منافسة. لا أُبالغ بالقول إنّ أي جهود إصلاحية مهما بلغت تكلفتها المادية، ومهما بلغت حدود صلاحياتها، داخل سور هذه السياسات الراهنة، أنّ مصيرها سيكون إلى الفشل! بل إنّها أحيانا "وهو ما يُخشى منه" تقود إلى ترسيخ أقدام آثار التشوهات التي تسببت فيها تلك السياسات الاقتصادية. ولديك من الأمثلة العملية الشاهدة على هذه الحالة المستعصية الكثير، ستجدها في سوق العمل المحلية، السوق العقارية والإسكان، السوق المالية، بيئة الاستثمار المحلية. ليس منتظرا من الأجهزة الحكومية التنفيذية بواقعها المترهل الراهن، أن تبادر بالعمل على معالجة تلك التشوهات، وهو أمر متوقع تماما كونها صنيعة تلك السياسات من جهة، ومن جهة أخرى تحوّلها لاحقا إلى حامي حمى تلك السياسات! كما يظل الأمل ضعيفا جدا أن تأتي المبادرة من تحت قبّة مجلس الشورى، أو من المجلس الاقتصادي الأعلى الذي يتكوّن أعضاؤه من قيادات الأجهزة الحكومية نفسها المشار إليها أعلاه! إذاً من أين سيأتي الحل؟! أعتقد جازما أنّ بداية الحل ستأتي من تغيير قيادات تلك الأجهزة التنفيذية، وهو أمر ثبت نجاح نتائجه محليا وخارجيا، ولعل تجربة كل من وزارة التجارة والصناعة والهيئة العامّة للاستثمار خير شاهد ومثال! فإن أردنا الخروج من هذه الورطة، ليس أمامنا سوى هذا الطريق، المتمثل في تجديد وإحلال قيادات الأجهزة الحكومية التنفيذية بالكفاءات الشابّة المؤهلة، التي تمتلك شجاعة اتخاذ قرارات التغيير والتطوير "أعط القوس باريها"، فيما سيكون من الوهم أن تنتظر حلا من "فاقد الشيء لا يعطيه". والله ولي التوفيق.
إنشرها