Author

هل نقول لهم الحقيقة؟

|
"دروغي مصلحت آميز به كه راستي فتنة أنكيز" ـــ سعدي الشيرازي. بمناطق الخليج من يحفظون هذا البيت الفلسفي للشاعر الفارسي القديم "سعدي الشيرازي"، لأن البحارة الإيرانيين الذين يصبون بضفاف الخليج من عشرات السنين ينشدون هذا البيت ضمن تنهيمة بحرية تشبه تلك التي ينشدها بحارة الخليج وزناً ولحنا. ومعنى البيت بتصرف: "الكذبة التي تجلب السعادة وتحفظ السلامَ أفضل من الحقيقة التي تربك وتزعج السلام". أولا، أفتخر بجمعيات السرطان في المملكة، فما أذهب لزيارة مرضى الرحمة إلا وأرى مجموعة من البنات الشابات من الجمعيات التي تختص بمرض الرحمة يزرن الفتيات والأطفال المرضى وبطريقة جميلة وغاية في التحسس الإنساني وكأنهن رفيف من الحمام، ومجموعات من الشباب كذلك يزورون مرضى الرحمة من الرجال والأطفال، غير أشياء وخدمات تقدمها تلك الجمعيات الذي يقول لي طبيب من جنوب إفريقيا يعمل في أحد مستشفياتنا الكبرى:"جمعياتكم للسرطان من أكثر ما رأيت مهنيةَ وتخصصا". القصة هي من القصص التي كل مرة تذيب جزءا من قلبي، فكثير من المريضات والمرضى خصوصا صغار السن يتواصلون معي ونبقى متواصلين، ومع أني أضع في أرشيف قلبي الحزنَ مسبقاً إلا أنهم وبطريقة غامضة جدا يشعون أنوارا في وجودي من قوة إيمانهم وصلابة إرادتهم، من حبيبي "ناجي أحمد" الذي دارت شهرته لما أرسل لي رسالة إلكترونية ليلة احتضاره، إلى الغالية"ريم نواوي" التي أسعدت مئات الآلاف من الناس بمرحها وذكائها وثقافتها ورسوماتها، والتي كانت تضحكني حتى يتشنج فكي، وأسماء كثيرة لا يرغب أهاليهم بذكرهم.. لم أتعلق بأحد كما تعلقت بأحبتي الصغار الذين يرحلون ويأخذون معهم شظايا من قلبي المتصدّع. حامد ــــ اسم مستعار ــــ كتب لي رسالة على الخاص في حسابي بتويتر، فتي سيدخل السادسة عشرة نهاية الشهر، منير الوجه، جميل الصوت، ذكي ومرح ومشرق.. وصرت أزوره وصرنا أصدقاء، ويعبر عن صداقتنا بكلام يحفر بأحاسيسي، ولما أخرج أبكي داخل سيارتي حتى أن الوقتَ يمر دون أن أشعر. وفي زيارتي بالأمس تقدم والدان وقالا:"ابنتنا "رنا"- مستعار- تود أن تراك". رنا أظن كما تبدو في العاشرة من عمرها وضّاءة أكلها الضنى فصارت هيكلا صغيرا، والعينان الكبيرتان تشعان ذكاءً ورجاءً وإيمانا، أرتني بجهازها أنها تتابع حلقات تلفزيونية لي، ثم أردفت:"اجلس عندنا اليوم، وضحكنا"! لم أتمالك نفسي أمامها، أنا الضعيف.. فأجهشت بالبكاء. طبيبتهما المشرفة سألتني: "أود أن أعرف رأيك هل تقال الحقيقة للمرضى خصوصا الأطفال كما فعلنا مع حماد ورنا، أم نتركهم برجائهم عندما لا يعلمون عن مدى خطورة وضعهما؟". هذا السؤال سؤال فلسفي طبي أخلاقي منذ أثير في ممرات مستشفيات الغرب في أول القرن التاسع عشر، مدارس تميل للمصارحة، وأخرى تكاد تحرّمه. وأما ردّي فكان.. بيت شعرِ سعدي الشيرازي!
إنشرها