Author

ما الفائدة من مضاربات العقار والأسهم؟

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
امتدادا للحديث عن التصارع القائم بين سوقي المال والعقار على السيولة المحلية، والآثار الأقرب إلى السلبية التي ترتّبتْ عليها على مستوى الاقتصاد الوطني، لعل من أبرزها أنّها لم تسهم في تحسين مستويات معيشة الأفراد، ولم تؤدِ إلى تحقيق تقدّمٍ ملموس للتنمية المستدامة، وعدم مساهمتها في الاستغلال الأمثل للفرص الاستثمارية، التي كانت بدورها ستضيف كمّاً أكبر إلى قاعدة الإنتاج المحلية، وتخفيف الاعتماد الكبير على النفط كأهم مصدرٍ للدخل، ومساهمتها المفقودة في إيجاد فرص العمل الملائمة أمام الباحثين عن العمل من العاطلين والعاطلات. لم تتفشَّ المضاربات بالأموال في أيّ اقتصادٍ في العالم، إلا أعقبتها ويلات وكوارث اقتصادية ومالية، من أكثرها خطراً؛ عبثها الكبير بمقدرات وموارد الاقتصاد، يدفع بأي سياساتٍ أو جهودٍ إصلاحية وتطويرية نحو الفشل قبل أن تحقق أهدافها، التي بدورها ستعمل عبر عدّة سنواتٍ من تفشّيها واستمرار سيطرتها على تكريس التشوهات الهيكلية في الاقتصاد، ما يفاقم لاحقاً من زيادة فجوات الدخل بين طبقات المجتمع. حيث سيزداد تركّز الثروات لدى الطبقة الثرية القليلة العدد، نتيجة جنيها لمكاسب عمليات المضاربة سواء في السوق المالية أو العقارية كما هو قائم لدينا، في المقابل ستنحدر بقية طبقات المجتمع نحو درجاتٍ أدنى في سلّم حصصها من الدخل والاستقرار المالي، الذي يتسبب لاحقاً في تورّط شرائح واسعة من طبقات المجتمع في قيود القروض البنكية لأعوامٍ طويلة، علماً أنّ الارتفاعات القياسية التي يشهدها الاقتصاد بالنسبة للسلع والخدمات والعقارات وأغلب بنود تكاليف المعيشة، ليس إلا أحد نتائج تفشّي معاملات المضاربات المحمومة في الأسواق الجزئية، وما يجري لدينا في سوقي العقار والمال؛ ليس إلا فصلاً من فصول الدوامة الاقتصادية والمالية التي نستوطن قعرها في الوقت الراهن. لهذا؛ أؤكد أنّ توقّع انتعاش سوق المال مستقبلاً، مقابل توقّع تعرّض السوق العقارية لموجة تصحيح سعرية، قياساً على التطورات والمتغيرات التي سبق ذكرها في الجزء الأول من المقال، لا يعني أن هذا أمر صحيّ بالنسبة للاقتصاد الوطني، وإنْ حمل معه شيئاً من الإيجابية بالنسبة للأفراد فيما يختص بتوقعات تراجع أسعار الأراضي والعقارات، إلا أنّه في المنظور الأوسع على مستوى ما تقدّم ذكره من تشوهات مرتبطة بعلو كعب "المضاربات" بغض النظر عن موطن نشاطها المحموم، يمكن القول إنّ الاقتصاد والمجتمع بهذه الصيغة يخسر بأكثر من أضعاف ما يكسبه "حفنةً" من المضاربين، وأنّ المجتمع تحت آثار ديمومة تفاقم تلك المضاربات، يتجه إلى مزيدٍ من الفجوات المالية بين طبقاته، متمثلاً في زيادة الثراء الفاحش لدى القلّة، مقابل تفشّي واتساع دوائر الفقراء والمدينين للمصارف والعاطلين عن العمل، وبديمومة هذا النموذج الاجتماعي المختل وتعمّق آثاره، ليس مستغرباً تفشي أشكال الفساد الاقتصادي والمالي والإداري، وأن تتفشّى جرائم السرقات والنهب والاعتداء، عدا الأخطار الأكبر المرتبطة بالإرهاب، وزيادة قدرة الرؤوس المدبرة لجماعاته الإرهابية على اصطياد ضحاياهم بكل يسر وسهولة، وسط مستنقعاتٍ عميقة مشبعة بالفقر والعوز والجهل. حسناً، ما المطلوب للخروج من هذا النفق المظلم لتفشّي المضاربات بالأموال والثروات، الذي لم أذكر من عواقبه الوخيمة أعلاه إلا جزءاً يسيراً يكاد لا يُذكر؟! إجابةً عن هذا السؤال الجوهري؛ أؤكد أنّ أغلب ما كتبته في الكثير من المقالات السابقة، سواءً بالحديث عن التشوهات التي تعانيها بيئة الاستثمار المحلية، أو الاختلالات التي تتغلغل في أغلب أنحاء سوق العمل، أو تطوير وتحسين السياسات الاقتصادية المسيّرة للأداء الاقتصادي، أو تطوير وتحسين الأداء الحكومي، وزيادة الرقابة على تنفيذ المشروعات الحكومية الهائلة الإنفاق، أو محاربة أشكال الاحتكار والتلاعب بالأسعار، وتحديداً في السوق العقارية والمتاجرة بالأراضي والمخططات السكنية، أو تطوير إدراج الشركات العائلية والكبرى في السوق المالية عوضاً عن إدراج الشركات المتردية والنطيحة، ورفع مستوى الشفافية في تعاملات السوق المالية، وضرورة رفع مستوى الوعي الاستثماري لدى عموم المتعاملين، وخاصةً الصغار منهم. أو محاربة أشكال الفساد كافّة والمتورّطين فيها سواءً من كبار المسؤولين الحكوميين، أو رجال الأعمال وأصحاب النفوذ في لمجتمع، كل تلك المحاور وغيرها ذات الارتباط بها، أؤكد أنّ التقدّم في مختلف طرقها المتشعّبة والوعرة، يصبُّ في المحصلة الأخيرة نحو تحقيق شروط التخلّص من آثار تلك التشوهات والتحديات الجسيمة، في مقدمتها موضوع هذا المقال ممثلاً في تفاقم "المضاربات" بالأموال والثروات على حساب توظيفها في القنوات الاستثمارية المجدية، التي تعم بفوائدها شرائح أكبر من المجتمع، وتخدم جهود تنويع قاعدة الإنتاج المحلية، وتعزز من ركائز الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. زمام المبادرة للبدء بتنفيذ تلك الإصلاحات بيد الجهاز الحكومي، وهو أيضاً ما سبق الكتابة والحديث حوله في الكثير من المقالات واللقاءات، والكاتب أو غيره ممن يشاركه الاهتمام بهذه القضايا، الذي يجمعهم أنّهم من حيث القرار والقدرة على التصرّف؛ يقعون خارج أسوار الأجهزة التنفيذية الحكومية، مؤكداً أنّه ليس في أيديهم أكثر من الكتابة والحديث عن تلك القضايا، واقتراح الحلول الممكنة وفق تصوراتهم، وأنّ الأخذ بأي من تلك المقترحات ودراسة الأفضل منها أو عدم الأخذ بها، تتحمّل تلك الأجهزة التنفيذية الحكومية مسؤوليته بالدرجة الأولى والأخيرة! وليس لأحدٍ من المهتمين والمختصين مهما بلغ وزنهم الأدبي والإعلامي أنْ يفرض آراءه وأفكاره على أيّ طرفٍ من الأطراف. لا توجد وصفة مختصرة لحلِّ تلك التشوهات، ولو كانتْ بتلك السهولة واليسر لما غُلب أحد من الأمر، ولكن يوجد تشخيص وحلول سبق وضعها عبر العديد من المشاركات والمقالات سواء للكاتب أو غيره من المختصّين، وأقولها بكل أسف بناءً على تجربتي الشخصية؛ أنّ الاستجابة من قبل تلك الأجهزة الحكومية بصورةٍ عامّة بالكاد تصل إلى 20 في المائة مما يتم طرْحه إعلامياً. لا تتوقّف مشكلة تأخّر مواجهة التحديات والتشوهات عند هذا الحد، فقد سبقها ما هو أكبر وأعقد من ذلك بدرجاتٍ هائلة؛ حيث تصدر العديد من الأنظمة والقرارات واللوائح التنفيذية لحل وتفتيت تلك التشوهات، ولكن للأسف يظل الجزء الأهم منها معطّلاً غير معمول به، وأجزاء أخرى منها خاضعة إمّا للتنفيذ غير المدروس، أو التنفيذ المخترق بالكثير من الاستثناءات التي تحوّله من حلٍّ أمثل إلى فشلٍ أكبر. تقبّل الله صيامكم وقيامكم، وكل عامٍ وأنتم بخير بمناسبة حلول عيد الفطر المبارك، أعاده الله عليكم أعواماً مديدة وعديدة.
إنشرها