Author

يا ويْلنا إن قبلنا كل ما نراه

|
.. أني أكتب هذا المقال فهذه حقيقة، وأن يقرأه بعضٌ من القراء فهذه حقيقة، وأن يصغي له صانعو قرارات الأمة الكبرى.. فهذه أمنية. هذه الأمة الإسلامية الكبرى كانت يوما صقرا يجوب الآفاق، ويكشف من علوِّهِ مساحاتِ الأرض، ويجول واثقا وكأنه المتحكم بالفضاءِ، الأطيارُ في الأجواءِ تهابه، والطرائدُ على الأرض تخافه. أين هذا الصقر اليوم؟ هل مات الصقر؟ هل اختفى؟ لا، الصقر موجود ولكننا لا نراه عاليا في أجواز السماء، لأنه رابض على الأرض، تكسر الجناحان ولم يعد يستطيع أن يمارس أهم ما يجعله مهابا قويا.. الطيران. لقرونٍ الآن والأمة هذه كلما حاولت إصلاح جناحيها، صار العكس تماما، زادت قصقصة الجناحين، وكادت أن تُنتزع القوادمُ، بعد أن نزع أعداؤها المخالب. اليوم ندفع ضريبة إخفاق الأمة عن الإقلاع، والأمة مصابة في أضلاعها فلا تستطيع أن ترُمَّ هذه الأضلاع وتلمّ هيكلها الكامل لتحميه، وربما عاد الجناحان يخفقان ولو رويدا. ندفع الضريبة ونحن نرى، وأجيالنا التي قبلنا رأت، وأدعو اللهَ ربي ألا تراها الأجيال القادمة. الأمة تنزف في كل مكان من جالية الصين مرورا ببورما صعودا لأفغانستان وباكستان، وفي قلب العالم بلاد ما بين النهرين، وقديما قال هيرودوت المؤرخ الإغريقي الأعمى: "بلادَ ما بين النهرين قلبُ العالم الخافق". أدركها الأعمى من أكثر من ثلاثة آلاف عام، وما زالت الأمة بعينين كبيرتين واسعتين.. تبصر ولكنها لا ترى. ثم نزفت سورية وصار لون الدم هو الطاغي في اللوحة السورية مزيلا بقوة هديره وسيْله باقي الألوان، والأمة تبصر ولا ترى. إن عملت زاد الدمُ وتفرعت وزادت الأيادي التي تنزع الأرواح وتهرق الدماء، لأن الأمة لا تحرك أطرافها كاملة فكل طرف يتحرك طليقا لوحده، بطريقته، وما يراه مصلحته. وستتجلى الأمورُ يوماً ليتببن اللاعبون لوحدهم أنهم أكبر المتضررين. والأمةُ بذاكرةٍ منزلقة، تلهو بقضية كبرى ثم تتلهى عنها تماما بقضية أخرى، التهت بالثورات الربيعية ونست فلسطين والأفغان ومسلمي بورما. ثم اشتعلت سورية وتمزقت أحشاؤها وتجمع الضباعُ عليها كالذبيحة، ونسيت الأمة الثورات ونسيت فلسطين والأفغان وفي كل مكان فيه عروق مسلمة ترعف بالدماء. أما فلسطين، فالأمةُ مع الأمر الواقع على الأرض، لأنها ترى ولا تبصر، لما انقسمت بين ضفة "فتحية"، وشريط ضيق مخنوق على البحر "حماسي"، صارت الأمة تنسى فلسطين الجامعة وتقول: "في الضفة في القدس وتقول في غزة ويجري في غزة". صحيح أنهما منفصلان ولكن قبول الواقع بالرؤية وبجناحها المعطَب كرّس في ذهنيتها ما تراه. ويا ويلنا إن قبلنا كل ما نراه! أسمع الآن أصواتٍ تحيي القلبَ الحزين وهي نداءاتٌ التجمّع بين الدول الإسلامية الكبيرة لموقف يُتَّفَق عليه حول ما يجري من ذبح متعمد ومخطط له من إسرائيل للمدنيين بغزة الذين هم أكثر أهل الأرض عذابا. لا أود أن أقول لعل الدم النازف في غزة يجمعهم؛ وأقول: من غزة المنتصرة بإذن الله ستبدأ الأمة تبصر، وتبدأ الأمة في تحريك جناحيها، ليطير الصقرُ الذي كاد أن ينسى معنى أن يطير!
إنشرها