Author

الآباء وجيل رواد الأعمال

|
سارع كثير من الجامعات السعودية لاعتماد برامج تعليمية وتربوية لنشر ثقافة ريادة الأعمال في الجامعات، بل إن كثيرا من الجامعات أنشأت وكالة على مستوى الجامعة للأعمال والإبداع المعرفي. هذه الجهود رائعة ومتسقة مع توجهات الحكومة السعودية في دعم ريادة الأعمال والعمل الحر من أجل توطين ونقل التقنية، وتقليل البطالة، واستثمار رأس المال المعرفي والبشري. لكن يبقى السؤال: هل مرحلة التأثير وبناء الشخصية الريادية تبدأ في الجامعة؟ أم أن هناك وقتا أبكر وتأثيرا أكبر لبناء الشخصية الريادية يبدأ من المنزل؟ هل يستطيع الوالدان تقديم جيل معتمد على نفسه ومبادر لصنع واقعه؟ وهل يستطيعون المساهمة في تنمية الاقتصاد وتنويع موارده ومكتسباته من خلال تربية شخصية ريادية قادرة على التعامل مع متغيرات السوق؟ هناك العديد من الدراسات التي أشارت إلى أن أبناء رجال وسيدات الأعمال لديهم فرص أكبر من غيرهم ليكونوا رواد الأعمال، وقد تُفسر هذه الظاهرة بأن أبناء هذه العائلات تأثروا بقدوات يعيشون معهم، وأثر ذلك في طريقة تفكيرهم وتوجههم. كما أن هناك عددا من الدراسات التي أشارت إلى أن باستطاعة الوالدين التأثير في الأبناء ليتحلوا بصفات ريادية مثل الاستقلال في التفكير وحب الاستطلاع وحب الابتكار والتجديد والتغيير وغيرها. سأضرب ثلاثة أمثلة من واقعنا المحلي في هذا المقال لنرى أثر تربية الأبناء والقدوة على تخريج جيل من رواد ورائدات الأعمال المبدعين. المثال الأول هو عن سيدة من السيدات التي أثبتت نجاحها في خدمتها في المجال الصحي وكذلك الأعمال. هي سيدة لها أبحاث وساهمت في صنع منتجات خدمت البشرية في المجال الصحي، وهي أستاذة ورئيسة لمركز أبحاث في جامعة كاليفورنيا - سان دييغو، إنها الدكتورة غادة المطيري التي تتحدث عن أثر والدتها (خريجة الكيمياء) في مقابلة لها مع جريدة عكاظ، حيث تقول إن أمي "من الشخصيات المختلفة والفريدة، فقد غرست بداخلنا مبدأ المسؤولية وعدم الاتكالية، ولم أر في حياتي قهوة إلا من صنع يديها على الرغم من وجود من يخدمها". الجدير بالذكر أن الدكتورة غادة تخصصت في نفس تخصص والدتها في الجامعة (الكيمياء)، ثم انطلقت في مجالات البحث والإبداع ونفع البشرية. إن الوالدين لهما تأثير كبير خاصة في أنهم مصدر للإلهام وزرع القيم، فقيمٌ مثل التجربة والخطأ والتعلم من الفشل، والاستقلالية، وحب الابتكار والتغيير والتجديد بجانب قيم مثل الصدق، وتحمل الأمانة والمسؤولية لا تستطيع اكتسابها من المحاضرات أو الدروس الجامعية، إنما تستطيع اكتسابها بسهولة إذا كانت واقعاً تعيشه في المنزل، وروتينا يوميا تراه في والدك ووالدتك. المثال الثاني هو عن شخصية من أهل الحجاز ومكة خصوصا، تألق في عالم الأعمال وخصوصاً في التقنية ومسرعات الأعمال وله إسهام كبير في شركة وادي مكة للتقنية ومسرع الأعمال في جامعة أم القرى بمكة، إنه رائد الأعمال أسامة نتو. على الرغم من الإمكانات والقدرات الكبيرة التي يمتلكها أسامة، إلا أنني أعتقد أن والده رجل أعمال مكة المعروف بكر عباس نتو، له دور مؤثر في صياغة شخصية أسامة، وتعلمه الإصرار في العمل وعدم الاستسلام عند الفشل. يتحدث رجل الأعمال بكر نتو (والد أسامة) في يوتيوب بعنوان "دلوني علي السوق" بقوله "والحمد لله بدأنا معاه - أي مع أسامة - تدريجيا بالتوجيه، طالما عنده الاستعداد بنوقف معاه". هذا الحديث المختصر لعدة ثوان يعطي مؤشرا لطبيعة العلاقة والتربية التي تمتع بها أسامة، وأعتقد أن الثقة بالنفس وعدم الخوف من الفشل اللتين يتميز بهما أسامة نتو تُعزيان- ولو جزئياً- إلى القيم الذي زرعه والدا أسامة فيه. طبعاً هذا لا ينتقص إطلاقاً من الجهد والتدريب والإصرار الذي يتمتع به أسامة، إنما يبرز جانبا مهما ومضيئا للآباء والأمهات في تربية أبنائهم. المثال الثالث هو عن سيدة أعمال مثابرة، كافحت من أجل بناء اسم لها في عالم الأعمال على الرغم من الحواجز والعراقيل الكبيرة، واستطاعت وضع قدمها في طريق يبشر بمستقبل واعد في عالم الأعمال، كما نالت عدة جوائز محلية وإقليمية.. إنها نورة المقيطيب صاحبة مطعم نوريات في المنطقة الشرقية. على الرغم من أن كثيراً من الأبواب أُغلقت في وجه نورة في فترة من الفترات حسب مقابلة نورة مع جريدة الجزيرة، إلا أن إيمان والديها بقدراتها وبنجاحها رافقها، وخفف من وحدتها في طريقها نحو النجاح، حيث أهدتها والدتها كاميرا لتصور طبخاتها وطهوها لعمل كتاب طهو متكامل، ثم أقرضها والدها لطباعة الكتاب بعد أن رفضت دور النشر طباعته. هذه المواقف من الوالدين هي مؤشر لمدى الإيمان بقدرات نورة، وكذلك مؤشر للثقة ومستوى الحرية والاستقلالية التي هيأها والدا نورة لها وعاشت في كنفه. الأمثلة التي تثبت أثر الوالدين في بناء الشخصية الريادية كثيرة سواء في مجتمعنا المحلي أو العالمي، وليس الهدف من استعراض هذه الأمثلة الناجحة تقليل إنجازات أصحابها؛ لأن هذه الإنجازات لم تكن لتحدث لولا إصرار وعزيمة وسعي أصحابها الدؤوب، إنما هي رسالة إلى الآباء والأمهات ولفت للانتباه إلى أهمية دور الوالدين في صياغة شخصية رواد ورائدات الأعمال في السعودية. يقول المؤلف المشهور جيمس بالدوين "الأطفال عادةً ليسوا جيدين في اتباع تعليمات الكبار، لكنهم بارعون في تقليدهم".
إنشرها