الطبيب الإنسان ..

الطبيب الإنسان ..

طوبائيون نصبح إن حكمنا بأنه لاتوجد لدينا مشاكل أو معاضل وحيرة ،أو قد نختار ذلك عمداً وتغاضياً منا أن نكون كذلك. ولكن تلك الأرجوحة الجميلة الوردية اللون التي أوصلتنا بالسعادة الوهمية صعوداً إلى السماء تأبى إلا إن تهوي بنا نزولاً إلى أرض الواقع الصعب، لتتحطم مدينتنا الفاضلة ومجتمعنا المبني من عرائس ودمى تؤدي دورها المثالي على أكمل وجه وملائكة لا تحقد ولا تمرض ولا تموت هما وحزناً. ونفتح أعيننا بشدة كمن فاق لتوه من تأثير بنج لنرى من حولنا يصابون بالمرض والإعياء أو نصاب به نحن ،مرض جسدي ونفسي ومرض عمل ومرض مكتبي ومرض قديم ومرض جديد وأنواع كثيرة ... وما أن نعتل نهال بهالة من الهم والحزن وقد نحاول في بادئ الأمر أن لانكترث لوخزات الألم التي تنتابنا ثم لاتنفك أن تنبهنا بين الفينة والفينة الأخرى مذكرة إيانا بأن هناك أمر ما وقد يكون أمر مقلق لنرفع رؤوسنا الى السماء فكأننا نصّعد إليها ويصبح صدرنا ضيقا حرجاً،ونفكر ونحيي الليل الساكن بالتفكير والتحليل العميق ماذا حل بنا وماذا لو نستطيع أن نداوي أنفسنا بأنفسنا ونضغط على جرحنا بقوة بأيدينا الضعيفة .،ونسمع ونرى بأن الكثيرون ممن حولنا تحولوا إلى أطباء أنفسهم. وذلك خوفا من الوقوف طويلاً في إنتظار طابور أطول ، وعوضاً عن الإزدحام وبعد تاريخ المواعيد ،والتهرب من مقابلة طبيباً مكفهر الوجه مقطب الحاجبين ،أو طبيباً مضارباً مستثمراً سلعته عدد المرضى وحجم علب الدواء ،هدفه بعيد كل البعد عن الوقوف بين قلب المريض وروحه مداوياً بعد ربه بعذوبة واحترام للجسد الذي يفر من مرضه ،بل جاعلا هدفه السامي هو التجارة عن طريق تجميع جوقه من المرضى ومعالجتهم بوقت قياسي بحيث لايجلس مع كل مريض دقائق معدوده فيظهر لنا الترجل في التشخيص وندرة البحث والتأني فالأهم هنا أن تنتهي ويأتي المريض التالي وهكذا ،والآخر قد يحقر من ألم المريض وآخر قد يهول من مرضه فيضيف كيلاً من الأمراض بمجرد كلمات كسهام موجه إلى قلبه تضعفه أكثر من ضعفه فهو لم يأتي إلا وهو بأسوأ حالاته. مجبرين نحن أن نقصد الحكيم الطبيب فنار الألم المتوقدة والقلق الذي يسعرها ينهشان أجسادنا هما أقوى وأشرس من تفكرينا الذي بعده نعي ونجزم وننطق بصوت مرتفع أعلى من التفكير بصوت عالي ومحادثة النفس ، ونصرخ بنعم لقد فدناك أيها الحكيم الطبيب ذلك الذي يرانا فيبتسم لتتحول إبتسامته الى ضماد الذي سخر نفسه لحفظ الناس عن طريق حفظ صحتهم ،تلاشى عندنا مفهوم الطبيب الصادق نفسه وضميره اليقض ،الصادق مع حلمه قبل أن يلبس المعطف وبجوب الأرض معالجاً الناس سواسية مخضعاً نفسه وجل وقته لذلك . إلا أننا في وسط حيرتنا وضياعنا وفي غيهب الليل نجد مصباح نور وبارقة أمل يصنعها أطباء مبدعون ،حري بنا أن نذكر أحدهم فالدكتور محمد بن إبراهيم العماري من أحد الأطباء الذين يستحقون لواء التكريم وجدير بنا أن نجعله وأمثاله معلمين وقدوة لتعم الفائدة لدينا -لما يتصفون به من سمات وخلق - فهو يراعي حقوق المريض ويستمع إلى شكواه بكل حواسه وينظر إلى عيني المريض مباشرة مهتماً ومنصتاً ومحفزاً إياه لمراحل العلاج الدكتور العماري الذي يقصده المريض وهو غضباً آسفا ليخرج من عيادته مشحوناً بالتفاؤل وحب الحياة فهو (المريض)يحضى بعلاج ومجلس ثقافي ويستمع الى الخواطر والشعر والتاريخ ويسأل عن الأهل والأحوال والهوايات وكأنما دخل على أحد من أهل بيته وأصحابه فيخفف من هول و روع المريض من مرضه فيكاد يتلاشى لون العياداة الأبيض الذي يصيب الروح بالجمود ورائحة العقاقير تزول وتخفيها الحفاوة والاهتمام، خبرة ذلك الطبيب التي تثق بها نابعة من قصص نجاح تعود إلى زمن نراه بعيدا من والديه , فوالدته التي اضطرت لبيع أسورتها الذهبيه لتمتطي سياره مع سائقها للهجرة من القصيم إلى الحجاز ومن هناك كانت اللبنة الأولى في بناء البدايات التي تشكل وشماً في بناء شخصية الانسان. وتحديداً في الطائف تعلم روح المعاونة فقد كان يعمل بالبيع في سن صغير لكي يساند والديه وإخوته مستمداً المثابرة والإصرار من والدته التي كانت تحمل معها آلة للخياطة في حلها وترحالها. نشأ على شغف القراءة والعلم حيث أكمل الثانوية بتفوق ليتم اختياره وابتعاثه إلى مصر التي فيها لم تقر له عين حتى دعا أسرته للإقامة معه وحتى يكمل تعليمه وتعليم إخوته إلى أن أتم تعليمه العالي في الولايات المتحدة والتحاقه بالعسكرية وعودته الى أرض الوطن ومزاولته للمهنة العظيمة التي في أحد أيامه فيها طلب من المسؤولين ان يخلع السترة المرصعه بالنجوم العسكرية حيث كان طبيا عسكريا والتحف بالمعطف الابيض وعلق السماعة ومضى معالجا ،معللاً بذلك بأنه يستطيع الجمع بينهما وأن المرضى بحاجته أكثر. فمن طقوسه الاتصال أكثر من مرة على المريض وكأنه يعوده مطمئناً على صحته وعلى جدوى العلاج الموصوف وكأننا نرى من يطبق حديث سيدنا المصفى محمد صلى الله عليه وسلم (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتفنه )في زمن أضحت الماديات واللهث ورائها وصغر حجم الرغيف وخشونته وعدم الثقة بين أفراده أبرز شعاراته واذا صدقنا كلام الطبيب نصبح من المحظوظين لأنه قد يكون ظاهريا طبيب وهو لايملك شهادة الطب ولم يمر عليه وقد يجري لك عملية جراحية أيضا. هنا تسحبنا ذاكرتنا إلى وقت بعيد وزمن عتيق وقد نصاب بمرض النستولوجيا ونصرخ بآه ياليت ذلك الزمن يعود ولن نجد من يداوينا. فحلمنا الذي في كنف السماء تلج به ألسنتنا هاهو قد أمطر وتحقق وأثمر فيسخر لنا الخالق عبادا كملائكة رحمة كطبينا الآنف الذكر الذي هو الآن يستقبل المرضى في عيادته الخاصة التي أسسها على مبدأ إنساني فالعلاج مجاني لكل قريب ولكل فقير ومؤجل الدفع لكل معوز مستدين. عندما نشهد أشخاص يمسكون بأيدينا في دوامة التيه وغصات الألم سواء كان معلما أم طبيبا أو قريبا أو قاضيا ... هنا قد نتلمس بأنه قد يعود مجدنا القديم العريق هناك يوما دوّن الرازي الذي جمع شتات الطب بجهده الشخصي وماقاله عن نفسه : (ولا ظهر مني على شرهٍ في جمع مال وسرف فيه .. ولا على منازعات الناس ومخاصمتهم وظلمهم). الرازي الذي عاش آخر أيامه في فقر مقدع ولكن شهرته تجوب الأرض والآفاق وأثره يحتذى به.
إنشرها

أضف تعليق