Author

الجاسوسية الاقتصادية

|
كاتب اقتصادي [email protected]
« سيأتي يوم لن يتجسسوا علي عن طريق هاتفي. في الواقع هاتفي هو الذي سيتجسس علي» فيليب ديك - أديب وكاتب أمريكي الأمريكيون يقولون للصينيين إنكم تتجسسون علينا اقتصادياً. الصينيون لا يردون على الاتهام ويواصلون العمل. الأمريكيون يصعدون من حملتهم الاتهامية للصينيين بالتجسس. هؤلاء يواصلون الصمت، ولأن الصمت في مثل هذه الحالات أشد فظاعة من الرد يبدأ الأمريكيون بسرد بعض عمليات التجسس الصينية عليهم لأنهم بالطبع غير قادرين على تحديد كل عمليات التجسس هذه. هنا يتحرك الصينيون ويقررون الرد لا يسردون عمليات تجسس الأمريكيين عليهم بل يرسلون قائمة بأسماء الجواسيس الذين يعملون لحساب الولايات المتحدة في قلب المؤسسات الصينية. الأمريكيون يصمتون بفعل الصدمة التي أحدثتها القائمة الرهيبة. الصينيون يضعون وراءهم على الفور الاتهامات ومعها عمليات التجسس التي كشفت عنها في واشنطن، ويمضون إلى مزيد من الإنتاج ولا بأس من مزيد من التجسس. المتهم هنا صار كذلك من متهم آخر وليس من جهة بريئة، والجواسيس لا تتهم الجواسيس عادة. مع "الانفجار" التقني والتكنولوجي المتصاعد ظهر السؤال هل ما زال هناك شيء يمكن أن يكون هدفاً للتجسس في الاقتصاد على اعتبار أن كل شيء بات مفتوحاً على كل جهة بل أصبحت بعض الجهات أكثر تداخلاً مع منافسيها مما كان عليه في السابق ورغم ذلك فلا تزال هناك الكثير من القطاعات والنشاطات الاقتصادية المختلفة عرضة للتجسس. في الاقتصاد القائم على التنافسية لا توجد صداقات بين أطرافه بل في حالات كثيرة تكون الأطراف أقرب للأعداء منها لجهات متنافسة. ولعل أبلغ توصيف في هذا السياق ما قاله رئيس سابق للاستخبارات الفرنسية ماذا قال "في الاقتصاد نكون منافسين وليس حلفاء" وهو أصدق تعبير يمكن أن يقوله رئيس للمخابرات سابق أو حالي، كما أنه وضع حدوداً واضحة وصادقة لطبيعة العلاقات حتى بين الحلفاء. كُشف في السابق أن المخابرات الفرنسية كانت تضع ميكروفونات في مقاعد المسافرين من رجال الأعمال على الطائرات الفرنسية ولكن هل عمليات التنصت هذه على متن الطائرات المدنية هي حكر على الفرنسيين فقط؟ الجواب ببساطة لا، لا يوجد بريء في هذا المجال، هناك فقط "جاسوس متطرف"وآخر أقل تطرفاً، وأقسام التجسس الاقتصادي في أجهزة المخابرات (ولاسيما الغربية منها) تحظى باهتمام يفوق في بعض الأحيان الاهتمام بنظيرتها السياسية. الفارق بين الاثنتين أن الأولى تعمل بصمت أوسع من صمت الثانية دون أن ننسى بالطبع التكامل التلقائي بين الجهتين والتداخل الطبيعي بينهما وكما في المباريات الرياضية، يفوز هذا الفريق مرة ويخسر مرة ويتعادل أحياناً، كذلك الأمر بين الجهات الاستخباراتية الاقتصادية المتنافسة فمساحة التحرك واسعة في ملعب أوسع. وليس أكثر صدقاً أيضاً في هذا السياق من روبرت جيتس المدير السابق لوكالة الاستخبارات الأمريكية (سي آي أيه) الذي قال بصراحة "إن أكثر من 40 في المائة من المتطلبات ذات طابع اقتصادي". وبعد جيتس بسنوات جاء إدوارد سنودن الموظف السابق في وكالة الأمن القومي الأمريكية ليكشف بالوثائق مستوى التجسس الأمريكي الاقتصادي على الأعداء والأصدقاء وأيضاً الحلفاء. لا فرق هنا بين هذه الأطراف إلا في درجات المخاطر العائدة إلى هذا الطرف أو ذاك ولكن هناك فارق بين التجسس الاقتصادي والتجسس السياسي أو غيره من الأنواع الأخرى. أن الحجة "حماية الأمن القومي" في الثاني لا تنطبق على الأول فالتجسس الاقتصادي لا يشكل تهديداً مباشراً للأمن القومي وإن أحدث أضراراً غير مباشرة، ومع ذلك فهذه الحجة هي الوحيدة التي تتعلق بها الأطراف الساعية للتجسس، شرقاً وغرباً. الجاسوس الصيني هو نفسه الأمريكي والفرنسي والبريطاني والياباني والألماني ولكن بأهداف مختلفة، وإذا كانت الأخلاق في السياسة ليست ذات قيمة محورية علينا أن نتخيل المستوى الأخلاقي في عالم التجسس. لقد بات تعاظم مستوى التنافسية على الساحة العالمية في كثير من الأحيان دافعاً للتجسس أكثر منه للابتكار المضاد أو الحراك المتطور وقد قام قادة أقسام الجاسوسية في الغرب والشرق بتقديم تفسير مروع لنشاطاتهم ماذا يقولون "إذا كان التجسس يتم من أجل الأمن السياسي والعسكري فلماذا لا يتم التجسس من أجل الأمن الاقتصادي" ليس مهماً الفارق الحقيقي بين هذا الأمن وذاك، المهم أنه يحمل اسم "الأمن" وانتهينا ستشهد المرحلة المقبلة تعاظماً فظيعاً في نشاطات التجسس الاقتصادي خصوصاً في ظل مرور الاقتصاد العالمي بمرحلة بطيئة من التعافي الذي سيستغرق وقتاً طويلاً لكي يستقر عند مستويات معقولة. ويبدو أنه في الأزمات "تشرعن" المحظورات أكثر. فإذا كانت المصارف الكبرى استنجدت بالأموال القذرة لإنقاذ نفسها من براثن الأزمة الاقتصادية العالمية، فلن يشكل تعاظم مستويات وعمليات التجسس الاقتصادي بين كل الأطراف صدمة أو حتى خبراً. إنها ممارسات "عادية" في الأوقات العادية وفي الأزمات أيضاً بل هي واجب قومي وطني في معايير الجاسوسية، وليس هناك وقت للنقاش حول الفروقات بين أمن وآخر.
إنشرها