Author

العصامي المدعوم والإصلاحي المتقاعد

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
قد يكون من حقّ المرء أنْ يصف نفسه بما شاء من أوصاف تحفّزه داخليا، أو ليتكيّف مع محيطه الاجتماعي، كأنْ يصف نفسه بالعصامي أو الإصلاحي إلى آخر ما شاء من صفات كريمة، غير أنّه قد يسقط فيما يمكن أن ينفي عنه استحقاق أيّ من تلك الصفات في عدد من الحالات! من أبرزها أنْ يتقمّص أيا من تلك الصفات دون وجود ما يُثبتها في أفعاله قبل أقواله، ويزيد من التكلفة على نفسه عبر محاولة إقناع غيره قسْرا أنّه ذلك المرء العصامي أو القائد أو الإصلاحي ... إلخ. كل ذلك قد يكون من حق أيّ امْرئ منّا، لكنّه ليس ذا حق في فرضها كإحدى صفاته في أذهان غيره من الناس! فكما أنّ له الحق، فإنّ لهم الحق بالقدر نفسه أنْ يحكموا عليك بما شهدوا منك من أقوال وأفعال، أليس النّاس شهود الله في أرضه؟ قلْ وافعل ما يوافق المبادئ التي تسكن بين جوانحك، واجعل كل ما يصدر عن جوارحك خالصا لوجه الله - تعالى، وانزع من نفسك قدر المستطاع آفة الرياء "الشرْك الأصغر"، فإنْ أتتْ من الناس شهادتهم بأنّك ذو الصفة المحمودة التي تعتز بها، أمْ لم تأتِ، كل ذلك لا وزن له في ميزان سعيك الحثيث في هذه الدنيا الفانية لأجل مرضاة رب الأرباب. لنعلم أنّ ما يسعى إليه المرء عند الله باق، وما عند النّاس زائل، وأنّ النّفس مستقرّها الآمن في الاطمئنان إلى ربها وطاعته وأمره وذكره، ولا ضير إنْ لامتْك على ما فاتك من خير ندمتَ عليه، فتعيدها لمستقرّها السعيد، وكل ما عليك أنْ تحذر منه كل الحذر أنْ تجرفك إلى مستنقع النفْس الأمّارة بالسوء اتباعا للباطل والعياذ بالله. ومن منّا من لا تجرّه أهواؤه إلى سوء السبيل؟ ومن منّا في مأمن من الوقوع في الإثم؟ كلّنا خطّاء؛ غير أنّ خير الخطّائين التوابون. مقدمةٌ كان لا بد منها، تمهيدا لما سيأتي من حديث. أدّى زيادة تغلغل مختلف وسائل الإعلام والاتصال في حياتنا المعاصرة، إلى إحداث كثير من التغييرات على ذواتنا، منها ما هو محمود، ومنها ما هو مذموم، شعرنا به أمْ لم نشعر، الأهم والمؤكّد هنا أنّه ترك آثاره العميقة على شخصية كل فرد منّا. هذا بدوره مهّد لزيادة تأثّر الكثير منّا إلا من عصم الله بالمحيط الهائل الحجم من حوله، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم؛ من غلبة المظاهر السطحية وإنْ كانتْ مفلسة خاوية على جُلِّ توجهاتنا، قد يستدرك البعض منّا نفسه منقذا لها من هذا الهراء، وقد يغيب تماما في تلك المستنقعات الخاوية. كيف لك أنْ تتقمّص إصلاحا مزعوما بعد أنْ بلغت من العمر عتيّا؟ وقد كنتَ طوال حياتك عنه بعيدا قصيّا، فتأتي اليوم بعد أنْ انفضَّ من حولك القوم، تنادي بما كنت له بالأمس خصما، أو خاذلا له طمعا في كرسي المنصب وما جاوره من مال وجاه وسلطان. ولا يقف قبح قولك وفعلك وإنْ ألصقته بمكارم الأخلاق بعد فوات الأوان عند هذا الحد، بل يتعدّاه لتبدأ في تصنيف غيرك من البشر في تصنيفات ظالمة لك قبل أن تظلم بها غيرك. وكيف لك أنْ تصف نفسك بالعصاميّة، وقد ولدتّ في فمك ملعقة من ذهب؟ وفي الوقت ذاته لا تفوّت فرصة لتحبط غيرك من الكادحين في الأرض فقرا وبطالة وفوات أغلبية الفرص عليه، فتصفهم بالانهزامية وعدم الإنتاجية، وأنّهم ليسوا مثلك في الطموح ذاته والصفات القيادية! كم هو سهلٌ عليك أن تسقط على غيرك السخط واللوم والتوبيخ، ممن لم يحالفهم قدَرهم حتى بواحد في المليون مما حظيتَ به من ثراء أو سلطة أو مكانة اجتماعية مرموقة. وقسْ على باقي "العاهات" البشرية التي أُبتلينا بها في هذا الزمن ما شئتْ من أمثلة ووقائع. لو أدرك أيّ من أولئك الأصناف من البشر أعلاه، أنّ أحدا منهم في الوقت الذي أصابه الهلع ذات يومٍ من فقدان كرسي منصبه، أو خسارة ماله، إنْ هو فعل "عُشْر" ما يأمر به الآخرين بعد انفضاض القوم من حوله من إصلاح، ومحاربة للفساد، وسوء استغلال للسلطة، أؤكّد أنّه في الوقت الذي جُبنَ فيه هذا الجهبذ الورقي عن ذلك الأمر، أنّ غيره قد فوّض أمره إلى الله، ليثبت فعلاً لا ادعاء موقفه الرافض لأي من تلك المخالفات الفاسدة، وقد يكون دفع ثمن فعله المحمود منصبه وجاهه ومصدر دخله! ومن عجبٍ أنّ الأخير لم يبحث عن مسرح للأضواء يتباهى فوقه بما صنع، وأنْ من جبنَ عن الفعل ذاته بالأمس، تراه اليوم صاحب الصوت والصورة! لو أدرك ذلك "العصامي" المدلل في كنف والده، أنّ بدايته لم تكن من "الصفر" بل من الستة "أصفار" فأكثر التي تركها له والده، لما تفرّغ اليوم لغيره ممن هم تحت "الصفر" ليصفعهم صباح مساء بعصاميته المزعومة! وأنّه لو مرَّ بجزء يسير من الظروف الصعبة التي وجدوا فيها؛ إمّا "يتم" أفضى إلى شتات في الطفولة وما بعدها، أو "فقر" للأسرة أفضى إلى وراثته جيلا بعد جيل، أو "حرمان" من التعليم الجيد أفضى إلى حصوله على شهادة لا تسمن ولا تغني من جوع، أو لأي ظرف آخر من الظروف الحياتية المعقدة، أقول لو أنّه لو مرّ بأي من تلك المصاعب، لكان في عداد الغابرين. رفقاً بالبشر أيها "المدّعي"، كن ما تريد أن تكون ودعْ غيرك يواجه مصيره بعيداً عن ضوضائك المزعجة! فكم من خرج من عنق اليُتم والعوز والفقر من وقفتْ أمام منجزاته العظيمة كل طموحاتك عاجزةً كل العجز، وكم تمكّن من حفر الصخر طموحا وسعيا على الرغم من التحديات الجسيمة التي واجهها منذ نعومة أظفاره من بلوغ قمم عليا، لم يستطع غيره بلوغ حتى عُشرها رغم كل ما حظي به من دعم وفرص لا تُنافس! أقولها صادقا لك أيها الإصلاحي المتقاعد، لك أيها العصامي المدعوم، لك أينما كنتَ في موقعك الذي حصلت عليه من فضل غيرك، امنح غيرك ممن قُصرتْ حيلتهم وقدرتهم "الفرصة" لينهض بعيدا عن ضوضاء "حضرتكم". كرما لا أمرا؛ احتفظ بدررك المكنونة لنفسك، وراقب فقط شقيقك الإنسان ماذا سينجز وينجح في تحقيقه، رغم كل ما واجهه ويواجهه من تحدياتٍ وأزمات. والله ولي التوفيق.
إنشرها