Author

اللغة المفقودة بين المسؤول والمواطن

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
ترى من أوجد هذه الفجوة الواسعة بين أحد أهم طرفي معادلة التنمية "المسؤول، المواطن"؟ الطرف الأول "المسؤول" المعني بتنفيذ المهام والمسؤوليات المنصوص عليها في الإطار النظامي لجهازه الذي يتولّى هرمه، هو وجميع من يعمل تحت إشرافه وإدارته. والطرف الثاني "المواطن" الذي قد يكون هو بدوره منتسباً لأحد تلك الأجهزة الحكومية، أو عاملاً في إحدى منشآت القطاع الخاص، أو طالباً أو متقاعداً أو مكتفياً. في أحيانٍ كثيرة تعتقد أنّ لغة الحوار بينهما، وصلت إلى طريقٍ مسدودٍ تماماً! فالمسؤول لا يفوّتُ فرصةً إلا ويتحدّث عن المنجزات اللافتة وغير المسبوقة لجهازه الحكومي، ويضيف إليها في الختام وعوداً قاطعة بالمزيد من تلك المنجزات. في المقابل تجد شكاوى ومناشدات الطرف الآخر "المواطن" لا تغيب عن شاشات الإعلام، وصفحات الصحف، ومواقع التواصل الاجتماعي المعاصرة. اجتمعَ أغلبها حول أوجهٍ من القصورِ والتأخّر للأجهزة الحكومية ذاتها التي تتحدّث عنها قياداتها بلغة المنجزات! في الوقت الذي ترى فيه هذا المسؤول يصرّح بأنّه تم توظيف مئات الآلاف من المواطنين والمواطنات، تجد في المقابل أضعاف تلك الأعداد لا تزال تبحث عن فرص عمل! وترى أيضاً مسؤولاً آخر يصرّح بالتقدّم الكبير المتحقق على مستوى الرعاية الصحيّة وتوافر المستشفيات والمراكز الطبية، ولكن في المقابل تجد عشرات الآلاف من المواطنين والمواطنات يسعون في الأرض حثيثاً بحثاً عن موطئ قدمٍ للعلاج! وترى أيضاً مسؤولاً آخر يصرّح بانفراج أزمة الأسكان وقرب تحوّلها إلى فصلٍ بائدٍ من الماضي، وأنّ كل باحثٍ عن السكن سيجد مبتغاه على يد جهازه النشيط! لكنك ستدور حول نفسك من الحيرة، وأنت تشاهد وتيرة أسعار العقار والأراضي والإيجارات تسابق الريح صعوداً، وتجد الملايين من أرباب الأُسر تتقاذفهم أيادي هوامير العقار ككرات الريشة. وأمضِ في هذه الجدلية المتناقضة ما شئتَ على بقية جوانب التنمية المحلية، فلن ترَ على الأغلب إلا كهذه التناقضات اللافتة جداً، لتتشكّل أمامك فجوةً واسعة الهوّة بين الطرفين "المسؤول، المواطن"، وحينها ستكتشف أنّها لا تقف فقط عند مجرّد فقدان لغة الحوار بين الطرفين، بل هي أشدُّ من تلك الصورة، وأكثر عمقاً مما بدا على سطحها. أصبح معتاداً على مستوى الخطاب الإعلامي، وأمام اتساع تلك الفجوة التنموية بين الطرفين، أنّ من يقفُ مع الطرف الأوّل "المسؤول"، يمكن وصفه بصاحب الرؤية الإيجابية، التي تبعثُ على التفاؤل والتحفيز لإنجاز المزيد من "المنجزات غير المسبوقة". وأنْ تُسبغ على من يحمل صوت الطرف الآخر "المواطن" بصاحب النظرة السوادية القاتمة، التي تبعث على الإحباط والتثبيط، ويُزاد أحياناً عليها أنّ أولئك القوم من الإعلام ليسوا إلا متخصصين في اقتناص "الأخطاء النادرة" وغير المقصودة في الأصل، وبالتالي يجب إيقاع اللوم عليهم تجاه هذا التضخيم لها، الذي يستهدف طمس تلك "المنجزات غير المسبوقة". للحق؛ إنّ هذا الصراع الإعلامي ساهم بدوره في إذكاء روح الخلاف، وإرساء لغة عدم التوافق، إلى الدرجة التي وصلنا إليها الآن وكأنه لا يوجد أي لغةٍ للحوار بين الأطراف كافّة. إنّ العودة إلى أسس أي قضيةٍ يتم طرحها، والاعتماد على توثيقها بالإحصاءات الرسميّة، التي تخدم بكل جدارةٍ وأهلية كاملة دون غيرها في قياس "المنجزات المتحققة"، ومقابلتها بلغة الأرقام للمتطلبات التنموية لدى مختلف شرائح المجتمع، كفيلٌ تماماً بإخماد جذوة تلك الخلافات، والمسافات المبتاعدة بين وجهات النظر، سواءً لدى "المسؤول" أو "المواطن" أو حتى الطرف الثالث ممثلاً في "الإعلام". حسناً؛ إذا كانت الأمور بهذه البساطة المتناهية فلماذا تأخّرنا أو نتأخّر عن تحقيقها؟! الإجابة: على الرغم من تحسّن مستوى الإفصاح عن البيانات والمعلومات طوال الأعوام الماضية، إلا أنّه ما زال دون المستوى المأمول واللازم أيضاً، فعدا تأخّر مواعيد نشر تلك البيانات والإحصاءات اللازمة لتقييم حجم ودرجة تقدّم "المنجزات"، ومقارنتها بحجم "المتطلبات" التنموية لدى المجتمع، غالباً ما تعاني تلك الإحصاءات المنشورة غياب الكثير من التفاصيل الدقيقة، ولا يمكن التأكّد من الغاية وراء ذلك الغياب أو النقص في تفاصيلها، هل هو عن سوء معرفة وجهلٍ بأهميتها؟ أمْ أنّه ناتجٌ عن نيّة معتمدة بعدم نشرها؟ ورغم كل ذلك، فما أصبح متوافراً من قواعد تلك البيانات والإحصاءات، يمكن القول إنّه كان كافياً إلى حدٍّ بعيد بأنْ يُبنى على أساسه تقييم موضوعي للعديد من القضايا التنموية لدينا، يمكن الاعتماد عليه تجاه ما إذا كان هذا منجزاً حقيقياً أم تقصيراً حقيقياً. على ضوء مثل هذه الأسس المحددة، يمكن قطْع الكثير من التشوهات والشكوك وعدم الفهم في طريق تقييمنا لأي قضيةٍ من قضايانا المحلية. وبناءً عليه أيضاً، يمكن تقليص حجم تلك الفجوة أو المسافة المعتمة في لغة الحوار بين الأطراف المعنيّة كافّة، والخروج أو الاستقلال عن التصنيفات غير الدقيقة لوجهات النظر المختلفة، أنّ هذا إيجابي وهذا سلبي وغيرها من التصنيفات التي لا يُضيف وجودها إلا مزيداً من التباعد والاختلاف، الذي يبعدنا جميعاً بأضراره ومخاطره في الغالب عن الأضرار والمخاطر الأكبر المرتبطة بالقضية الأساسية للخلاف! لعل من أهم إيجابيات اعتمادنا في لغة الحوار والنقاش حول ما تقدّم ذكره، وأخصّ بالذكر هنا الاعتماد على البيانات والإحصاءات الرسميّة، أنّها سترسخّ لثقافة "التخصص"! ويعد من أهم المكاسب المتحققة، إذ سيقلل كثيراً من العدد المؤهل علمياً وقياساً على الخبرة؛ لأجل تناول تلك القضايا بمنهجيةٍ أكثر مصداقية، تحظى بمزيدٍ من الإقناع الملزم بمتابعة ما يُطرح في فضاء الإعلام من قبل "المسؤول"، وأن يتفاعل معه بكل مسؤولية، فإن كان منجزاً حقيقياً تم تجاهله أو التقليل من شأنه، يقوم بإيضاح الصورة الصحيحة! وإنْ كشفاً لا خلاف عليه عن تقصيرٍ بائن من جهازه الحكومي، أنْ يستجيب على الفور بموجب صلاحياته ومسؤولياته لمعالجة هذا القصور أو غيره. كما سيرتقي صوت المواطن المحمول عبر أقلام وأصوات تمتلك التأهيل اللازم، بالتعبير عنها وفق آلية ومنهجية تستند إلى أساس متين من العلم والخبرة، تلغي معه أية مزايدات على الحقيقة وأيّ طمس لها، لتقدّمها بلغة موضوعية إلى الرأي العام، ومن ثم تُكمل طريقها نحو النقاش والمعالجة اللازمة. إنّه طريق العودة لبناء لغة للحوار بين المسؤول والمواطن، الكاسب الأكبر من عودتها ونهوضها على أساس ثابت وراسخ؛ لا أشكُّ لحظة واحدة أنّه سيكون وطننا ومجتمعنا، والله ولي التوفيق.
إنشرها