FINANCIAL TIMES

الشرق الأوكراني .. أجواء ملتهبة تنتظر شرارة تائهة

الشرق الأوكراني .. أجواء ملتهبة تنتظر شرارة تائهة

في قرية التعدين البالية ستاندارتني في شرق أوكرانيا، يُشير بوريس نحو قذيفة أصابت منزلاً بجانب منزله ويذكر كلمات أحد الأصدقاء الزائرين من منطقة أبخازيا المتنازع عليها، التي تحمل آثار القنابل، في جورجيا: "إنها حرب بدون حرب". يقول إن مستواه المعيشي، وهو عامل مناجم يعيش الوضع المتردي في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفيتي، تدهور في العقد الماضي. ومنطقة ييناكيفو المجاورة يوجد فيها مصنع معادن كبير، ومصانع تصنيع رديئة كانت مملوكة للدولة، والرائحة المتبقية من الكبريت. ويقول: "لم نكُن نعيش بشكل جيد في السابق، لكن الأمور كانت مستقرة". "الحرب بدون حرب" تنطبق على معظم أنحاء المناطق الشرقية. مناطق شرقي أوكرانيا التي يسكنها إلى حد كبير أناس يتحدثون اللغة الروسية هي مركز الصراع على السلطة مع جارة أوكرانيا الكبيرة؛ روسيا. وعلى مدى الأسبوعين الماضيين، استولى رجال -بعضهم مُسلّح ويحمل الأعلام الروسية- على مبانٍ حكومية محلية، ومكاتب أمن، ومراكز شرطة فيما يصل إلى 12 بلدة ومدينة شرقية. لقد رفضوا الحكومة المؤيدة للتكامل الأوروبي التي تولّت السلطة في كييف بعد الإطاحة بالرئيس فيكتور يانوكوفيتش، ويدعون إلى المزيد من الحكم الذاتي، أو حتى إعادة التوحد مع روسيا. التطورات تشبه إلى حد مخيف حملة ضم موسكو لشبه جزيرة القرم في الشهر الماضي. هناك آلاف الجنود الروس المحتشدين تماماً عبر الحدود، ولا يزال بإمكان الوضع أن يتحوّل إلى حرب -ستكون حال حدوثها الأولى في القارة الأوروبية في هذا القرن. وبعد أن أطلقت السلطات في كييف عملية متعثرة "لمكافحة الإرهاب" لاستعادة السيطرة على المدن الشرقية هذا الأسبوع، أعلن الإعلام الروسي أن حرباً أهلية قد بدأت في مناطق أوكرانيا الشرقية. في الواقع، قد يشبه الوضع حرباً زائفة أو نفسية أكثر منها حرباً حقيقية. فلم يكُن هناك سوى قليل من الوفيات والحياة مستمرة بشكل طبيعي بالنسبة لمعظم الناس. وكانت المعركة أساساً بالكلمات والشائعات والمخاوف، مع الادعاءات المبالغ فيها من المسؤولين الروس والأوكرانيين على حد سواء. يوم الخميس في جنيف، اتفقت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا وأكرانيا على خطوات تهدف إلى الحد من التوترات. لكن الاتفاق يواجه خطر الانهيار بسبب رفض الانفصاليين في مدينة دونيتسك الشرقية الكبيرة إخلاء مقرّاتهم. وأي عنف يجازف بإيجاد ذريعة لغزو روسي. ومع تذكير بوتين المشاهدين عبر مكالمة رئاسية إلى برنامج تلفزيوني يوم الخميس بأن مناطق أوكرانيا الجنوبية والشرقية لم تُصبح جزءاً من البلاد إلا في العشرينيات، يخشى كثير من الأوكرانيين أن موسكو تبحث تماماً عن مثل هذه الذريعة. وتقول جايل جيشار - سكربينا، التي تترأس بعثة مراقبين في لوجانسك، أكبر مدينة في شرق أوكرانيا، مندوبة عن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا: "في وضع متوتر مثل هذا، كل ما تحتاج إليه هو شرارة من أي من الجانبين. ونحن هنا للمساعدة على منعها من أن تصبح ناراً". وتنفي موسكو دعمها للانفصاليين في الشرق. لكن الإطاحة بحكومة يانوكوفيتش الفاسدة والفاقدة للصدقية عملت على إظهار الخلافات القديمة بين مناطق البلاد الغربية الناطقة في أغلبها بالأوكرانية، والشرقية الناطقة بالروسية، الأمر الذي يكشف عن وجود شقاق بين الأجيال والطبقات الاجتماعية. وفي حين أن الحكومة في كييف ومعظم المناطق الغربية تؤكد رغبتها في الاندماج مع أوروبا، تبقى المناطق الشرقية مثبتة بقوة مع روسيا بسبب اللغة والثقافة والتاريخ. كما أن العديد من الشركات موجهة شرقاً، خاصة تلك التي تعمل في الصناعة منذ الحقبة السوفيتية وفي مجالات الزراعة والتعدين وصناعة الأنابيب والدفاع، وجميعها ذات أهمية استراتيجية بالنسبة لموسكو. يقول جينادي تشيزيكوف، رئيس غرفة التجارة الأوكرانية، وهو من دونيتسك - عاصمة ما تسمي نفسها الآن "الجمهورية" حيث يدّعي النشطاء قيادة الاحتجاجات المناهضة لكييف: "إن السوق الروسية مهمة جداً، لا سيما لاقتصاد التراث القديم. نحن نقوم في الأساس بتصدير المواد الخام والسلع نصف المصنّعة إلى أوروبا، لكن السلع تامة الصُنع، بما فيها الحلويات، تُرسَل إلى روسيا، فهم يشاركوننا الذوق". وقبل أسبوعين تصاعدت مظاهرات على نطاق صغير في المناطق الشرقية التي تتململ ضد حكومة كييف الوليدة. وقام رجال مسلحون بالقبض على رموز السلطة في دونيتسك ولوجانسك. وشارك المحتجون في دونيتسك في وقفات احتجاجية إلى جانب أكوام من الإطارات والكراسي والأسلاك الشائكة. وكانت الملصقات التي تُندّد بحلف الناتو والاتحاد الأوروبي قد ظهرت بجانب الأعلام: بعضها روسي، والآخر عبارة عن نسخة معدّلة مُضاف عليها "جمهورية دونيتسك". يقول إدوارد لوزوفسكي، وهو رجل أعمال في لوجانسك، في إشارة إلى الاحتجاجات المناهضة للحكومة في وسط كييف التي انتهت بهروب يانوكوفيتش إلى روسيا في شباط (فبراير): "الناس هنا يريدون الشيء نفسه كما في الميدان: أن يتم احترامهم، وأن تكون لديهم سلطة". ويوم السبت الماضي ارتفعت حدة التوتر في المناطق الشرقية مع حالات "استيلاء" جديدة في دونيتسك. وفيما يبدو أنها عملية منظمة، تم الاستيلاء على المكاتب الحكومية في عدة بلدات وإقامة الحواجز بسرعة. وكما حدث في شبه جزيرة القرم، قام رجال مسلحون بشكل جيد، يُطلق عليهم اسم "الرجال الخُضر الصغار" بسبب لباسهم المموّه بدون أية إشارات عسكرية، بتسلم السلطة في بعض الحالات القليلة. وأسسوا قاعدتهم الأكثر وضوحاً في سلافيانسك، التي تقع بشكل استراتيجي بالقرب من رأس السكك الحديدية ومهبط المطار. والرجال المسلحون الذين يتجولون في الشوارع يصفون أنفسهم بأنهم من "القوزاق"، بينما اعترف آخرون بأنهم جاؤوا من شبه جزيرة القرم. ويستمر السكان المحليون بممارسة التسوق والتنزّه وترك أطفالهم يلعبون بجانب الميليشيات المسلحة. ويتساءل أليكساندر، أحد السكان المحليين: "لماذا بإمكان الناس في الميدان الاحتجاج وليس نحن؟ هذا يعتبر من قبيل الكيل بمكيالين. لم يأت أحد للتحدث معنا من المجلس العسكري في كييف، الذي قام بإهانتنا مع شعاراته الفاشية. نحن نريد إجراء استفتاء". وفي بلدات كراماتورسك ويناكييفو وماكيفكا، تعتبر السيطرة على المباني العامة بمثابة وقفات احتجاجية مع سكان محليين شباب يرتدون الأقنعة بدون أية أسلحة مرئية. وتقف مجموعة صغيرة من المؤيدين، والكثير من كبار السن أو العاطلين عن العمل في الخارج، في حين أن موظفي البلدية يواصلون تغيير اتجاههم، بسبب الحواجز من أجل الذهاب للعمل في الداخل. في الداخل، تقدّم النساء جراراً تشتمل على الخضراوات المخلّلة والشطائر والشاي لجماعة المؤيدين. وكثير من الناس تأثروا بالدعاية المبالغ فيها في كثير من الأحيان من قِبل التلفزيون الروسي - الذي يُشاهد على نطاق واسع في المناطق الشرقية. لقد صور الإعلام الروسي حكومة كييف على أنها "فاشية ونازية جديدة" بسبب الدور الذي لعبته بعض الجماعات اليمينية المتطرفة المُهمّشة في الاحتجاجات المناهضة لحكومة يانوكوفيتش. وركزّ الإعلام الروسي والمناهض لكييف على القرار الذي اتخذه برلمان أوكرانيا، بعد يوم من الإطاحة بالرئيس يانوكوفيتش، بإلغاء قانون عام 2012 الذي منح حقوقاً كبيرة للناطقين باللغة الروسية. إلا أنه تم إلغاء هذا القرار في وقت لاحق - لكن الضرر كان قد وقع. ويشكو سكان المناطق الشرقية من تهديدات للغة الروسية، وتدمير مزعوم لآثار أبطال حقبة الاتحاد السوفياتي، ومحاولات لتعظيم ستيبان بانديرا، وهو قومي في زمن الحرب من غربي أوكرانيا. وقد استشهدوا بتهديدات وشيكة باستخدام العنف من قبل القطاع اليميني، وهو مجموعة قومية من كييف، مع أنه لم يكُن هناك أي دليل على مثل هذا النشاط. لكن بعيداً عن الاحتجاجات، الشكاوى الرئيسية من الأوكرانيين في المناطق الشرقية هي نفسها الموجودة في المناطق الغربية: ركود اقتصادي، ومركزية سياسية مفرطة، وفساد، وسيطرة عدد قليل من "أنصار حكّام القلّة" على جزء كبير من ثروة البلاد. وتُشير استطلاعات الرأي إلى أن أقلية فقط في المناطق الشرقية تفضّل أن يكون الحل هو الاتحاد مع روسيا، كما حدث في شبه جزيرة القرم، لكن هناك أغلبية واضحة تريد قدراً أكبر من اللامركزية في السلطة. وقد ازدادت حدة المشاعر التي من هذا القبيل بسبب الركود الاقتصادي، مع عدم دفع بعض الرواتب، وتجميد المدّخرات وهبوط العملة بشكل حاد. يقول أوليج، وهو سائق في دونيتسك: "أنا أشعر بالقلق على الجدّات. كيف سيتدبرن أمورهن؟ بعد أن تضاعفت الأسعار". ويضيف، مستخدماً مصطلح لمؤيدي بانديرا الذي أصبح لقباً ازدرائياً لحكومة كييف: "أنا من روسيا، ولا أريد البانديروفتسي. فهم الآن يهددون بقانون جديد بموجبه لن أكون قادراً على الذهاب إلى شبه جزيرة القرم لقضاء العطلة، ولن أكون قادراً على التحدث باللغة الروسية". تاتيانا، المؤيدة لأوكرانيا موّحدة، التي تدير متجراً للسلع الفاخرة في المدينة، تقول: "أنا أفكّر في إغلاق متجري. كثير من عملائي ذهبوا بعيداً، أو مختبئون في المنازل". وما لا شك فيه أن سلطة كييف قد ضعُفت بشدة في المناطق الشرقية. في الأيام الأخيرة أمرت إدارة دونيتسك بإلغاء أمر حكومي بوقف بث الأخبار الروسية. كما أن "عملية مكافحة الإرهاب" التي أعلنتها كييف هذا الأسبوع، التي تركز في الأساس على سلافيانسك، لم تؤد إلى إجراءات تذكر باستثناء اختراقات جوية من قِبل طائرة هيلوكبتر عسكرية وطائرة نفاثّة. وفي الوقت نفسه تمكّن الرجال المسلحون الانفصاليون بسرعة من إقناع الجنود الأوكرانيين في كراماتورسك بتسليم ناقلات الجند المدرعة يوم الأربعاء، على مرأى من حشد كبير كان يطلق الهتافات. مع ذلك، الدعم لأوكرانيا موحدة يبقى. مظاهرات يوم الخميس المؤيدة للاتحاد جذبت المئات في لوجانسك، وما يصل إلى ألفي شخص في دونيتسك - وهي بنفس حجم العديد من مظاهرات الانفصاليين الأخيرة. وقبل ساعات من ذلك، قاوم الحرس الوطني في ماريوبول، وهي ميناء صناعي إلى الجنوب، محاولة عصابة محلية السيطرة على مستودع أسلحتهم. لكن في إشارة على مقدار بقاء الوضع محفوفاً بالمخاطر، فقد توفي على الأقل شخص واحد في ذلك الهجوم. وليس واضحاً ما إذا كان هذا الشخص قد قتلته رصاصة أحد الجنود أو أحد الموجودين بين الحشود، المسلّحين ببنادق وقنابل مولوتوف. وأي تكرار لذلك - إلى جانب احتمال النقل الخاطئ للخبر من قِبل الإعلام - قد يكون في النهاية شرارة الاضطرابات، والتدخل العسكري الروسي. يقول إيهور تودوروف، أستاذ العلاقات الدولية في دونيتسك، المختص في الشؤون الأوروبية: "لقد تم تدمير السلطة المحلية بالكامل، حتى إنني لا أستطيع التنبؤ بما سيحدث لاحقاً. أي شيء محتمل. هذه مأساة. لقد عملت طوال حياتي واستثمرت في قطعة أرض صغيرة في شبه جزيرة القرم أخشى الآن أنني سأخسرها. فأنا لا أستبعد الهجرة".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES