Author

هل فقدت الرأسمالية الغربية بريقها؟

|
أستاذ جامعي ـ السويد
الذي يقرأ ويتابع ما يكتبه الاقتصاديون الغربيون البارزون والمقالات والافتتاحيات في أمهات الصحف الغربية قد يتصور أنه يعيش في موسكو أيام كانت الشيوعية والاشتراكية في عزّها. لا يمضي يوم إلا وهناك مقالات وعروض لكتب وأبحاث جامعية رصينة تنهال على النظام الرأسمالي الغربي الحالي وتنعته بأبشع الصفات وتعزو إليه ما يمر به الغرب من أزمات وتتكهن وتتنبأ بما هو أسوأ بكثير في الآتي من الأيام. ويذهب بعضها بعيدا في القول إن الدول الغربية مقبلة على كوارث اجتماعية وانتفاضات من قبل الطبقات المسحوقة إن لم يتم استبدال النظام الرأسمالي الحالي وبعضها يتنبأ بحروب كارثية قد تقع ليس في الأجل البعيد للتهرب من الأزمات الداخلية. ربما كان الكثير من الناس يتصور أن الوصف هذا فيه مبالغة كبيرة أو أن الهجوم على النظام الرأسمالي دائما يأتي من أطياف يسارية أو ليبرالية أو اشتراكية المنحى والتوجه السياسي، بيد أن دخول علماء اقتصاد المعترك هذا بأبحاث ودراسات جامعية رصينة تظهر فيه أن الرأسمالية صارت آفة ونقمة على المجتمعات الغربية أكثر منها نعمة، وضع أصحاب الشأن فيها أمام المحك. وأبرز عالم اقتصاد أدلى بدلوه في هذا المضمار هو الفرنسي توماس بيكتي في كتابه الجديد "رأس المال في القرن الواحد والعشرين". والكتاب ثخين يقع في أكثر من 700 صفحة، ولكنه مكتوب بلغة سلسلة يجعل من عملية استيعاب المفاهيم التي يأتي بها هذا العالم الكبير ممكنة حتى من قبل أناس عاديين وآخرين ليس الاقتصاد اختصاصهم من أمثالي. والكتاب تُرجم إلى الإنجليزية فور صدوره وإلى لغات أخرى. ودنيا الاقتصاد والمال وحتى السياسة مشغولة بالمحصلة التي يأتي بها وهي أن النظام الرأسمالي بشكله الحالي صار يمثل خطرا كبيرا على المجتمعات والدول الغربية التي ما زالت تتشبث به رغم مساوئه. والكتاب حسب العروض التي قرأتها حتى الآن أن في الصحافة أو الدوريات الأكاديمية قد فاق بشهرته وتأثيره في الأروقة العلمية كتاب آدم سميث: "ثروة الأمم" وكتاب كارل ماركس: "رأس المال". والكتاب نتاج سنين طويلة من البحث المضني في أروقة المكتبات الجامعية والأرشيف الحكومي لدول مثل بريطانيا وأمريكا وفرنسا وغيرها ويستند إلى عيّنة تمتد لنحو 200 سنة إضافة إلى قصص وأحاديث واستشهادات واقتباسات ومقابلات - كل هذا كي يدعم العالم الكبير استنتاجاته بالأدلة المدعومة علميا وأكاديميا وكل هذا بلغة بسيطة سهلة التقبل والاستيعاب. وقبل أن أوجز ما أتى في الكتاب هذا من آراء ومقترحات وتنبؤات للمستقبل أود الإشادة بالترجمة الإنجليزية التي لجودتها لا تشعر أنك تقرأ كتابا مترجما، بل وكأن النص مكتوب باللغة الإنجليزية. ينتهي بيكتي إلى خلاصة تضرب النظام الرأسمالي في الصميم، حيث يبرهن أن الهوة الهائلة بين الأغنياء والفقراء في ازدياد في هذه الدول. ليس هذا فقط بل إن الأغنياء اليوم يكدّسون ثرواتهم وملايينهم وملياراتهم من خلال عمليات أساسها التهرب من الضريبة من خلال عمليات تبدو قانونية، ولكنها مضرة للاقتصاد ومن خلال استثمارات أغلبها ريعية وفي مجالات غير خدمية وصناعية وزراعية غايتها تكديس الثروات وليس المساهمة الفاعلة في الاقتصاد والأعمال الريادية. والنتيجة المذهلة التي يتوصل إليها هي أن ضريبة الدخل ليست معيارا للمساهمة الاقتصادية الفاعلة حيث يقول إن 1 في المائة من الأغنياء في البلدان الرأسمالية مثل بريطانيا يساهمون في 25 في المائة من الدخل الضريبي للدولة، وهذا يبدو ظاهريا كبيرا إلا أن 45 في المائة من الدخل الضريبي يأتي من القيمة المضافة والرسوم والتأمين وغيرها من الضرائب التي يتحملها الناس سواسية إن كانوا أغنياء أو فقراء. وهذا يعني، كما يقول بيكتي، إن المواطنين متساوون تقريبا في الدفع الضريبي وإن عامة الشعب هي التي تدفع مصاريف الخدمات العامة من تربية وصحة وسكن وغيره وكلما زادت أجور هذه الخدمات زاد عبء الضريبة على عامة الناس، بينما تُخفّض الضريبة على الأغنياء بحجة أنهم يسهمون في الاقتصاد وهو ليس كذلك. وسنعود إلى كتاب توماس بيكتي في رسالتنا القادمة.
إنشرها