Author

هيئة التأديب المالي

|
إذا اقترض أحدهم سواء كان عميلا شرها مدمنا على الاقتراض أو غلبان تُستغل حاجته من قبل المصارف وشعر بالظلم، فسيذهب إلى الجهة المسؤولة عن حل النزاعات المالية، حيث تظل فرصة استعادة حقه مرتهنة بجودة أداء هذه الجهة. لكن إذا كان وعي العميل لا يسمح له بمتابعة شكواه كما يجب أو حتى التنبه للظلم الذي حصل له، فكيف تُضمن العدالة هنا؟ نقول إن هناك جهة ما، لها أدوار تنظيمية ورقابية، من صميم مسؤوليتها المحافظة على حقوق كل الأطراف بمن فيهم العملاء، بالتوعية والإجراءات الوقائية وغير ذلك من وسائل. ماذا لو وقعت هذه الجهة في ورطة بين مصالح متعارضة عدة، مثلا: تريد معاقبة طرف ظالم، لكنها في الوقت نفسه تريد استقرار السوق؟ أو تريد أن تضمن حق المظلوم مع الحفاظ على رونق المستبد - أو الجهة المتسببة في المشكلة. هل هذا منطقي؟ هل نستطيع أن نسمي هذا تعارض مصالح؟ لا أظن ذلك. هي ليست مصالح متعارضة، لكن قد تصبح كذلك من منظور الجهة التنظيمية حين يكون قوامها مختلا وأدوارها متداخلة متعارضة. ولهذا، نجد دائما في الدول المتقدمة فصلا مستمرا للأدوار، وربما فصلا وتقسيما لجهات كاملة لضمان عدم التداخل بين مهامها وأدوارها، وبالتالي ضمان نزاهتها واستقلاليتها الكافية لأداء واجباتها كما يجب. تستمر حركة توزيع أدوار الجهات التنظيمية في الدول المتقدمة كل بضع سنوات، لأنه كلما ارتفع مستوى السيطرة والتحكم أصبح قابلاً للاستغلال ممن يقترب من هرم هذه الجهات، فتكون هناك حاجة إلى إعادة توزيع المهام وفصلها بطريقة تمنع أشكال الاستغلال الجديدة. عندما لا يتغير هيكل الجهات الرقابية والتنظيمية، ولا تتم إعادة توزيع أدوارها لفترات مطولة، فهذا دليل على رضا واستغلال بعض المستفيدين لوضعٍ ما، وهؤلاء لا يظهرون في المشهد بطريقة واضحة. الأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة تكاد تكون في كل مجال تنظيمي ورقابي. لكن كمثال، سأتناول هيئة بريطانية جديدة تسمى: هيئة السلوك المالي Financial Conduct Authority، وهي هيئة حازمة مهيبة ومؤثرة في القطاع المالي البريطاني، مع إنها حديثة العهد، بل تكاد تكون في مرحلة الطفولة مقارنة بعمر المؤسسات البريطانية العتيدة. وعلى الرغم من أن هدف هيئة السلوك المالي يتعلق بسير عمليات الأسواق المالية ونزاهة النظام المالي وحماية المستهلك وتجيير المنافسة لخدمته، إلا أنها ضربت بقوة من البداية بفرض مباشر لغرامات صارمة وشجاعة جدا. منذ قدوم الهيئة في نيسان (أبريل) 2013 والأخبار العالمية تتناقل الغرامات الضخمة التي تصيب كبار لاعبي السوق المالية. حيث بلغت هذه الغرامات خلال عام 2013 ما يزيد على 474 مليون جنيه استرليني! كانت فعلا مؤثرة في سلوك المؤسسات المالية رفعت مستوى الحذر من الوقوع في الأخطاء، وأصبحت أشبه بالعملية التربوية التي يتم فيها التأديب العلني المؤثر لجميع من يشارك في السوق. تتنوع مسببات الغرامات، لكنها تصب جميعاً في بوتقة مخالفة الأنظمة، التي تراعي بدورها أهداف السلوك المالي المتوقع بناءً على أهداف الهيئة. وبكل تأكيد الشفافية ركن أساسي في كل أنشطة الهيئة، فتقارير الغرامات تعلن مباشرة وبتفاصيل كافية تشمل المسببات ومبلغ الغرامة وأي تفاصيل تخص سلوك الجهة المخالفة. ما يستحق الملاحظة كذلك هو أن البنك المركزي "بنك إنجلترا" بعيد عن هذه الأدوار الرقابية والإشرافية، فهو لا يجمع مهام إدارة السياسة النقدية والمالية في البلاد مع مهام الإشراف والتنظيم والترخيص والعقاب والجزاء. وهكذا تأخذ عدالة السوق مجراها بين المستهلك ومقدمي الخدمات المالية، وذلك لأن التوازن التنظيمي موجود والأدوار محددة بعناية. الفصل بين المهام مفهوم مهم وجوهري في إدارة الرقابة، سواء كان ذلك على مستوى منشأة صغيرة أم مؤسسة بحجم الدولة. وهذا ينطبق على كل القطاعات والجهات الإشرافية والتنظيمية بلا استثناء، ويتطلب بالتاكيد مقداراً عالياً من التنسيق، وقواعد واضحة للتواصل بين هذه الجهات يتم احترامها من الجميع. تزيد أهمية الفصل عند الهيئات الإشرافية التي تقع في المنتصف بين المستهلك ومقدمي الخدمات والمنتجات؛ تماماً كالهيئات المسؤولة عن المصارف والاتصالات والنقل والتعليم. عندما تفتقد الهيئات المركزية استقلاليتها تخضع مباشرة لتأثير الطرف الأقوى، وهو في الغالب من يملك المال والسلطة، حيث تصبح مجرد دمية في يده. حينها، يصبح من مصلحة اتحاد المستغلين هذا أن يكون المستهلك أقل وعياً، وإذا لجأ للتظلم فستتم خدمته بشرط ألا يحرج أحدا! تشير إحدى النظريات في عالم الإدارة إلى ما يسمى الأسر التنظيمي Regulatory Capture، حيث تسيطر الشركات الكبرى على الجهة التنظيمية المشرفة عليها؛ تدخل حينها عملية التنظيم والرقابة في نفق عميق من الفساد المستفحل. الشفافية ومراجعة توزيع الأدوار والفصل بين المهام مطالب ضرورية سواء للوقاية أو للعلاج من هذه الآفات، ولو بعد حين.
إنشرها