ثقافة وفنون

أنت لا تعرفينني .. لكنني أعرفك

أنت لا تعرفينني .. لكنني أعرفك

أنت لا تعرفينني .. لكنني أعرفك

تثيرك الدهشة وتلتبس عليك مفاهيم القسوة المفرطة التي يتبعها المحقق "جيرد ويزنر"، حين يهمس لممثلة المسرح كريستا ماريا زيلاند بإعجاب مستفيض: "أنا جمهورك" من واجبه كعضو فعال في جهاز مخابرات ألمانيا الشرقية، مراقبة حيوات الشعب، في محاولة للسيطرة ومعرفة كل التفاصيل، إلا أن ذلك التتبع يستحيل إلى إدمان لوجود كل من الكاتب جورج دريمان وعشيقته كريستا. فيلم الدراما الألماني The Lives of Others، من إخراج فلوريان دونرزمارك، حاز في عام 2006 جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي. ويعد من أبرز الأفلام الألمانية التي عكست الالتفات لحقبة انهيار جدار برلين، على غرار الفيلم الألماني "وداعاً لينين". يبتعد فيلم "حيوات الآخرين" عن الانتقاد الصارم للاستبداد الذي كان يتبعه حزب الوحدة الاشتراكي الحاكم، ويحاول الالتفات للجانب الإنساني للمحقق ويزنر. ويزنر الذي هيمن عليه فضول منذ أول يوم شاهد فيه مسرحية تمثل بها كريستا زيلاند، ويجلس محبوبا الكاتب دريمان يرقبها بسعادة بالغة. منذ أن اكتشف وجودهما في عام 1984، وهو يحاول تصيد أخطائهما، والتحجج بأي مدخل لمراقبتهما من كثب، وذلك على الرغم من ولاء دريمان الشديد للنظام والوطن، وكتاباته التي تعكس ذلك. فالحياة المثالية لا بد أنها تخبئ خلفها جانباً مظلماً، جانباً يخفي ظلماً وأخطاءً ترتكب لا بد من اكتشافها. #2# الفيلم الذي امتد لساعتين و17 دقيقة، يظهر ما قامت به ألمانيا الشرقية من كبح للحريات، حيث توزع في أرجاء برلين الشرقية أكثر من 200 ألف مخبر، يحاولون اكتشاف حيوات الآخرين، والبحث عن أي انتقاد للنظام. فالدولة تقوم بإجراء إحصائيات لكل شيء "كعدد الأحذية التي أقوم بشرائها كل عام: 2.3، عدد الكتب التي أقرؤها سنويا: 3.2، وعدد الطلبة الذي تخرجوا بتفوق: 6,347. إلا أن هناك إحصائيات يتم تجاهلها، لأنها قد تسبب عذراً وألماً شديداً، وهي معدل حالات الانتحار". ويشير دريمان هنا، إلى حالات الانتحار المرتفعة نتيجة قمع النظام للحريات، والذعر المنتشر. يسلط كذلك الفيلم الألماني "حيوات الآخرين" الضوء على أساليب القمع والتهديد للحصول على اعتراف. يقول المحقق ويزنر في إحدى المحاضرات التي يلقيها على الطلبة: "أفضل طريقة لاكتشاف إن كان المتهم بريئاً أم جانياً، هو الإمعان في التحقيق." والمتهم الذي يكذب سيكرر القصة التي حكاها دون تغيير لطريقة سردها. ينجح المخرج فلوريان في شخصنة ويزنر، ذلك الصارم المستبد المهووس بالتنظيم، الذي لا يعكس وجهه أية تعابير، ويفتقد منزله لحميمية الحياة، ويبحث عن بائعات هوى كمصدر للحنان الذي يفتقده. يشعر بالغيظ من جاذبية الكاتب دريمان التي جعلته يعيش حياة اجتماعية صاخبة، ونجاح كتاباته، وعلاقته بتلك الممثلة التي سحرته. يختبئ "ويزنر" في قبو يستمع فيه إلى ما يقوم به الكاتب دريمان، بعد أن لغم منزله بأجهزة تصنت في أرجاء منزله، يضع سماعات كبيرة، وينصت بتلذذ، يتفاعل مع أحداثهما اليومية، يسرق الدفتر الصغير الذي يمتلكه دريمان، ليحاول فهم تسلسل أفكاره وتفاصيل حياته. حتى أنه يغامر بمستقبله ويحمي الكاتب، ولا يبلغ عنه حين يشارك في كتابات معارضة للنظام. ويذهب لمقابلة كريستا ويحاول إبداء إعجابه بها ويمنعها من قتل روحها التي تبحث عن القيم والحياة. أما "كريستا" الممثلة المرهفة، التي يضغط عليها المحققون لخيانة الكاتب، والاعتراف بمؤامرته ضد النظام. فتذبل وتفقد القدرة على الحياة. "على الرغم من موهبتك وقدراتك فإن بإمكانهم أن يدمروك. هم يقررون أي دور نلعب ومن يقوم به، ومن بإمكانه أن يكون مخرجاً." الجدير بالذكر، أن الممثل Ulrich Muhe الذي قام بدور المحقق ويزنر، زعم اكتشافه بأنه قبل انهيار جدار برلين كان مراقباً من قبل جهاز المخابرات، وأن زوجته الثانية كانت مخبرة تقوم بتتبع أخباره. ويعكس ذلك اقتباس فيلم "حيوات الآخرين"، من قصة حياته الفعلية. هل هي محاولة للمخرج دونرزمارك، لإظهار الضمير الذي يشعر به محقق ينتمي لحزب اشتراكي مستبد؟ يظهر الجانب الإنساني، حين يمنع نفسه من مساءلة طفل باح له بأن والده يكره المحققين ويزعم أنهم يلقون بالناس في السجن. تتوحد شخصية المستبد مع الضحية. يعيش حياته ويدافع عنه. يقضي على وحدته بالإنصات إلى حزن الكاتب دريمان وغضبه وإنكاره لما يحدث من حوله. يبوح المحقق ويزلر لكريستا، بعد أن اختلطت لديه مفاهيم المراقبة والتعاطف، يباغتها في الوقت الذي تحاول أن تختلي فيه بنفسها بعيداً عن المنزل: "أنت لا تعرفينني، لكنني أعرفك، كثيرون يحبونك لشخصك وذاتك".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون