ثقافة وفنون

كتابة الغياب

كتابة الغياب

كتابة الغياب

حوار الكتابة حوار الصمت. زمن الكتابة زمن الغياب. مكان الكتابة عدم المكان. لا حياة بالكلمات. الحياة قد تكون هناك، خارجها. هناك قد يكون الآخرون، وأنا أيضًا. في المقلب الآخر من الكلام، خارج النَصِّ. الكتابة غياب الحياة. الحياة قد نصادفها بالمشي، قد نصادفها بالجلوس، تحت شجرة أو على رصيف. ربما تأتي سهوًا، بقبلةٍ أو برصاصة، لكن ليس بالكتابة. أَرشُّ على هذا الثوب الذي أرتديه سُمًّا للكلمات وأركض مجنونًا باحثًا عن الحياة. تسميم الكلمات هو الطريق القويم. موت الكلمات هو كلمة الحياة الأولى. لثغها الأول. يا طالعةً من فمي إنكِ تقتلينني! ليس بخنجر الخيانة وحده بل بسيف الشطْب هذا القتل. بالرمي من السطح النيّر إلى لجَّة المتوهَّم الغامض المستحيل. بوقد النار في القلب والأعضاء، وتوزيع المفاصل في الشتات. مشيٌ على الغيم، والسقوطُ رذاذًا. دخولٌ في غرفة الموت، فيما الحياة تلعب على الطرقات. في رحلة الصيد الطويلة لم أكن غير كشَّاشٍ لأرواح الكلمات. النصوصُ حمائم جافلة تطير من أمام المؤلِّفين. سرابٌ يمدُّ دربًا لا بيت على جوانبها، ولا شيء في خاتمة المطاف. يمدُّ حبال مشانق للسائرين. #2# وما دمتُ عرفت، لماذا عليَّ أنا النحيل أن أبقى معلَّقًا بهذه الحبال، لا ميّتًا ولا حيًّا؟ نحيلٌ لا يُميتني الحَبْلُ، ومعلَّقٌ أبْعدَ قليلاً من يد الحياة! أنا الذي لا يُستساغ لقمةً، لماذا عليَّ أن أبقى فريسةَ ما لا يُستساغُ أن يكون صاحب الوليمة؟ معلَّقٌ على حبل، معلَّقٌ على ورقة، منتظرًا حياةً تطلع من شقوق الكلمات. لا أعرف حياةً طلعتْ إلى كتَّابها من هناك. أعرفُ كتَّابًا ماتوا على الحروف، وكتَّابًا ماتوا على النقاط، وكتَّاباً ماتوا على هامش الورقة... ماذا أنتظر من الكلمات؟ أريد البياض. بحثٌ متوهَّم عن حياةٍ متوهَّمة، الكتابة. ليس صحيحًا إمكانُ استحضارِ غيابٍ بِنَصٍّ. لا الميّت ولا الحيّ. ليس صحيحًا ما اعتقدتُه في رحلة هذا الوهم الطويلة. الغيابُ عدَمٌ والموتُ عدم، لا يمكن استحضارهما. نصير غيابًا، نصير موتًا، في رحلة هذا الوهم. الكتابة، مرادفٌ للموت. كنتُ أظنُّ أني سأبني وجودًا من خيال. أنَّ التخيُّل يُحيلُ الخيالَ جسدًا، والكلماتِ تبني بيتًا، أكون فيه لا قُبالتَهُ. مشيتُ طويلاً في خيال اللغة، حتى انكسرتُ في وهمها. مشيتُ في اللغة بحثًا عن موطني، حتى اكتشفتُ أني أبحث عن وهم. ولأنّ اللغة كانت هي موطني، فإني ما سكنتُ إلا في الغياب. لم أكن غير كشّاشٍ لأرواح الكلمات. تلك التي خرجتْ من فمي، وروحي، وغابت بعيدًا. أتذكّرُ منها الآن النقطة الأخيرة الواهية في الأفق القصيّ. أتذكر منها عيونًا خرجت فجأة، التفتتْ إليَّ بلومٍ وغابت سريعًا. أتذكّر ريشًا تناثر بطلقات، وريشًا مستعجلاً للهرب، وخطًا دقيقًا رَسَمَه هذا الهروب في الفضاء، وامّحى بلحظة. لم أكن غير كشّاشٍ فاشل لأرواح الكلمات. لا مكان للكلمات، إنها حالة غياب. حالة استحالة. تأتي كانما ظِلٌّ أتى وتذهب كأنّما ظِلٌّ ذهب، ولا وجه لها أو قامة أو مكان. ظلالٌ، ظلال، ولا أثر. كلماتٌ كثيرة، ولكن يُستحالُ قولُ أيّ شيء. ظلٌّ يمرُّ أحيانًا، يمرُّ دائمًا، لكن لا صاحب له، ولا مقعد، ولا معبر، ولا كلام مع العابرين. الكلام هو خيانة المكان. والمكان هو خيانة الكلام أيضًا. فلأمضِ إذن. لا كلام ولا مكان لي. كنتُ ظلاًّ، كنتُ كلامًا خائنًا، فلأمضِ. الرغبات ترتدُّ على أصحابها. فلأمشِ بلا رغبة فوق هذا الجسر النحيل لأنَّ أيَّ سهم سيُسقطني. أيُّ سهم وربما هبوبُ نسيم. صائدو الرغبات طرائدُها، يَسقطون الواحد تلو الآخر كأنَّما العبور فقط لغير الراغبين. فلأمشِ، ولكن ببطءٍ، بلا رغبة. فلأمش فارغًا، ربما أصلُ سليمًا. الحمولة تزيد من ثقلي، فيهوي سريعًا هذا الجسر. على الذين يريدون العبور أن يتجرَّدوا، لا من ثيابهم وحدها بل من نفوسهم أيضًا! ... لذلك، لا عبور.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون