Author

كيف النجاة من ورطة التضليل؟

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
أستكمل الحديث حول ما بدأته في المقال الأخير "التصريحات المضللة .. تصنع قراراتٍ أكثر تضليلاً"، تفنيداً وفحصاً لعددٍ من التصريحات الصادرة مؤخراً حول الاقتصاد الوطني والتحديات التي يواجهها، مؤكّداً على أهمية "فلترتها" بعين الاختبار والمراجعة قبل أنْ يترتّب عليها أيّة قراراتٍ أو إجراءاتٍ معينة، ذلك أنّ مخاطرة قبول مثل تلك التصريحات على علاتها، لن يقف عند ذلك الحد فقط، بل سيتّرتب عليه تشكّل تصوراتٍ بعيدةٍ عن الحقيقة والصواب، ومن ثم قد يصدر بناءً عليها عدد من القرارات والإجراءات، التي بدورها إنْ صدرتْ وفق تلك التصورات غير الدقيقة، ستنتقل بواقعنا لما هو أخطر وأكثر فداحةً؛ إذْ عدا أنّها ستكرّس من وجود تلك التشوهات والاختلالات المُستهدف القضاء عليها في الأصل، ما يعني في الحقيقة أنّها فشلتْ تماماً قياساً على نتائج ترسيخها للتشوهات لا القضاء عليها، أؤكّد أنّ المخاطر الأكبر تقع في مرحلةٍ تالية لتلك الحالة، إذْ سيتسبب تصديق تلك التصريحات ومن ثم إصدار القرارات والإجراءات المبنيّة على تصوراتها، إلى خلق مزيدٍ من التشوهات والاختلالات الأخطر والأعمق في جسد الاقتصاد الوطني، ومن ثم سيعود أصحاب تلك التصريحات المضللة لإطلاقها مرّةً أخرى! لنكتشف بعد فوات الأوان أننا في منظور عدة سنواتٍ أو حتى عقود من الزمن، أنّنا ندور في حلقةٍ مفرغة بالغة الخطورة، تدور بنا نحو الهاوية التي لا قاع لها لا قدّر الله. لنأخذ مقتطفاتٍ من تلك التصريحات المضللة في صورتها الحقيقية، التي تم استقاؤها كعيناتٍ مما ذكرته في المقال الأخير: (1) أنّ البطالة نوعية وليست كميّة، وأنّ العاطلين السعوديين لا يقبلون بالوظائف المتوافرة، وضُرب مثالاً عليها بالوظائف في قطاع التجزئة "600 ألف فرصة عمل". (2) أنّ ما نسبته 75 في المائة من العاطلين لا تتجاوز مؤهلاتهم شهادة الثانوية العامّة. (3) أنّ معدّل نمو اقتصادي حقيقي يبلغ 4.4 في المائة معقول، ومقبول أنْ يقترن بمعدل تضخم لا يتجاوز 3 في المائة! (4) أنّ القطاع الخاص سيكون هو المحرّك الرئيس للنمو المتوقع للاقتصاد الوطني. (5) أنّ الاستثمارات الحكومية ستكون هي المحرك الرئيس لنمو القطاع الخاص! (6) أنّ أسعار النفط "المعقولة" ستمد الحكومة بإيرادات معقولة في المستقبل، ولهذا ستبقى الميزانية توسعية، وسيكون في الإمكان تحقيق فوائض. (7) إن معظم الفرص الوظيفية التي أتاحها النمو المتسارع للاقتصاد الوطني طوال الأعوام الخمسة الماضية، ذهبت إلى العمالة الوافدة! (8) أنّه لم يطرأ أي جديد على ملفي الإسكان والبطالة، اللذين سبق لصندوق النقد الدولي أن قدّم نصيحته للسعودية في شأنهما. (9) أنّ موضوع خلق فرص عمل أمام الشباب السعودي، يعتبر من أبرز التحديات التي تواجه الاقتصاد السعودي. (10) أنّ أسعار النفط العالمية من أكبر المخاطر التي تواجه الاقتصاد السعودي، خصوصاً أن النفط يسيطر على صادرات الاقتصاد، وأنّ منجزات التنوع الاقتصادي محصورة في نطاقٍ ضيّق. لا أقول إنّ التضارب الواضح، والتعارض الصارخ، ضاربٌ بأطنابه فيما بين التصريحاتٍ العشرة المتفرقة أعلاه! بل إنّه قائمٌ حتى في صلب كل تصريحٍ على حدة، وفي الفكرة التي وقفت وراء التصريح به من قبل كل متحدّثٍ من المتحدثين بها! أبدأ بمناقشتها واحدة واحدة في مقالين، هذا أولهما. نعم معضلة البطالة نوعية، وهي أيضاً كميّة! ولكن من هو مصدرها؟ إنّه القطاع الخاص وحده، ومعه الحكومة! هذا القطاع الذي تركّزت استثماراته على (1) الاستيراد بالجملة والبيع بالتجزئة. (2) الاقتيات على المناقصات الحكومية. ومن ثم ما الوظائف التي خلقها؟ لقد خلق وظائف مزرية من حيث التأهيل العلمي اللازم لها، وصلتْ إلى أن 90 في المائة منها لا تتطلب أكثر من الشهادة الابتدائية. في المقابل وللتصحيح لا يتجاوز حملة الشهادة الثانوية من مجمل العاطلين عن العمل نسبة 41 في المائة، وليس كما صرّح به صالح كامل 75 في المائة! بل على العكس تبيّن النسب الصادرة عن كلٍ من مصلحة الإحصاءات العامّة وصندوق الموارد البشرية أنّ حملة شهادة الدبلوم والبكالوريوس فأعلى يشكلون نحو 59 في المائة من الإجمالي، وإذا ما أُضيف إليهم حملة الشهادة الثانوية فقط فإن النسبة سترتفع إلى 91 في المائة! وللعلم يوجد في هذه الساعة أكثر من مليون طالب وطالبة منتظمين في المرحلة الجامعية، يضاف إليهم نحو ربع مليون مبتعث ومبتعثة. إذاً كيف يراد ممن أنفقت الدولة على تعليمهم وتأهيلهم عشرات المليارات من الريالات أنْ يقبلوا بوظائف في قطاع التجزئة على سبيل المثال، لا يتجاوز التأهيل اللازم لشغلها أكثر من الشهادة الابتدائية في أحسن الأحوال! لماذا تُرمى جزافاً تهمة عدم القبول بالعمل على أبنائنا وبناتنا؟ لماذا لم يلتفتْ رجل الأعمال هنا وغيره من رجال الأعمال إلى نوعية الاستثمارات التي دفعوها في البلاد، وأنّها كما أسلفتُ ذكره أعلاه لا تتجاوز الاستيراد بالجملة والبيع بالتجزئة، أو مجرد الاقتيات على المناقصات الحكومية؟ وأنّها لم تخلق من الوظائف إلا ما وجده أكثر من ثمانية ملايين عامل وافد مناسباً لها، قياساً على مستوى مؤهلاتهم التي لا تتجاوز الشهادة الابتدائية؟ وبأجور لا تتجاوز الـ 1500 ريال شهرياً؟ لماذا يراد قسراً أن تُحشر مئات الآلاف من الموارد الوطنية المؤهلة علمياً والمكلّف تعليمها في تلك الوظائف المزرية دخلاً وتأهيلاً؟ لماذا لا يُلتفت إلى نوعية استثمارات القطاع الخاص؟ لماذا لم يُلتفت إليها وهي التي لم تحقق على مستوى التنوع الإنتاجي أكثر من 11 في المائة طوال 44 عاماً من عمر خطط التنمية؟ حينما أستكمل الحديث والفحص اللازم لما بعده من التصريحات في المقال القادم، سنرى أيّ زيفٍ أعمى البصيرة كان سيأخذنا إلى ما لا ولن تُحمد عقباه، وأنّه لا بد من إعادة النظر بحزمٍ وجدية في كل ما تفصح عنه تلك التصريحات، قياساً على ما تفصح به مؤشرات الأداء الاقتصادي لدينا، وألا ننجرف على غير هدى خلف تلك التصريحات المضللة، وللحديث بقية...
إنشرها