Author

التصريحات المضللة .. تصنع قرارات أكثر تضليلا

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
وقف ثلاثة أشخاص أمام إحدى دور النشر في معرض الكتاب الأخير، أخذ الجميع ذات الرواية وبدأوا في الإطلاع عليها، تركّزتْ قراءة الشخص الأول بصورة سريعة على بداية الرواية لعدة دقائق، بينما قرأ الشخص الثاني على نحوٍ سريعٍ أيضاً في الجزء الأخير من الرواية، أمّا الشخص الثالث فأخذ في تصفّح صفحاتٍ أكثر بصورةٍ أقل سرعة، واستغرق وقتاً أطول من صديقيه اللذين معه، انتهى من تصفّحها في الوقت الذي كان صديقاه قد تناولا رواية أخرى. تحرّك الجميع لاستكمال جولتهم في المعرض دون أنْ يشتري أيّ منهم تلك الرواية أو غيرها، علّق الشخص الأول عليها قائلاً: رواية "سوداوية" من بدايتها، لم أستطع أنْ أكملها! الشخص الثاني: على العكس هي رواية "رومانسيّة جداً"، ألم تقرأوا الكلمات التي قالها "طارق" لحبيبته بعد أنْ اقترن بها؟ كأنّها كلمات فاروق جويدة! الشخص الأخير: لستُ متأكّدا؛ هل أنتم تتحدثون عن نفس الرواية التي تصفحّتها معكم، أم أنّكم تتحدثون عن روايةٍ أخرى؟ أنا وجدتُ رواية تبرز الصراع بين جيلين مختلفين، والكاتب وضع الصراع أمام القارئ دون تحيّز لأي جيل، وقد أعود لشرائها قبل أنْ أخرج من المعرض. تُرى أيّ أولئك الأشخاص الثلاثة كان أقرب للدقّة في وصفْه للرواية؟ لتعرف الإجابة بصورةٍ دقيقة، سنتفق جميعاً على أنّه لا بدّ من قراءة الرواية كاملة، ومن ثم التوصّل إلى الحكم الدقيق، والتقييم النهائي. آتي الآن للحديث عن قصّةٍ مشابهة، غير أنّ الرواية هذه المرة هي "الاقتصاد السعودي"، وهو ما ترتفع أهميته القصوى دون أدنى منافسة في المقارنة بين الحالتين، إذْ لا يُشكّل ثمن الخطأ في تقييم مجرّد رواية حتى واحدا في المليار من الخطأ في تقييم أداء اقتصاد بحجم اقتصادنا الوطني! صدر خلال الأسبوع الماضي ثلاثة تصريحات متباينة حول التحديات التي يواجهها، والجيّد من الناحية العملية بالنسبة لتلك التصريحات، أنّها صدرتْ عن ثلاثة أشخاص تختلف مواقعهم وتجربتهم اختلافاً كبيراً. صدر التصريح الأول عن رجل الأعمال صالح كامل، قال فيه: البطالة التي يعاني منها المجتمع السعودي في الوقت الراهن هي بطالة نوعية وليست كميّة، مبيناً أن زمن الطفرة أوجد جيلاً لا يقبل بنوعيات معينة من العمل، في حين أن الأجيال السابقة لم يكن لديهم كرة الخجل من أعمال بعينها طالما أنها "حلال". وأن هناك 600 ألف فرصة عمل في قطاع التجزئة، وأن أعداداً كبيرة من العمالة الوافدة تعمل في هذا القطاع، مشيراً إلى أن ما يدعم التوجه لتوطين الوظائف بقطاع التجزئة، هو أن 75 في المائة من الباحثين عن عمل لا تتجاوز مؤهلاتهم الثانوية العامة. أمّا التصريح الثاني، فقد صدر عن محافظ مؤسسة النقد العربي السعودي الدكتور فهد المبارك، قال فيه: نعتقد أن توقعات صندوق النقد الدولي لنمو الاقتصاد السعودي بنسبة 4.4 في المائة خلال العام الجاري معقولة ويمكن تحقيقها، وتوقعات الصندوق لمعدل التضخم عند 3 في المائة معقولة ونتوقع تحقيقها وهي أفضل من الدول الناشئة. ثم أضاف قائلاً: نرى أن القطاع الخاص سيكون المحرك الرئيسي للنمو هذا العام، وستظل الاستثمارات الحكومية المحرك الرئيس لنمو القطاع الخاص، ولذا فأنا "متفائل". ثم قال: كانت ميزانيتنا توسعية ومع ذلك حققنا فوائض، وبالنظر إلى الأمام وفي ضوء التوقعات للنفط، فإنّها تنبئ بأن السعر معقول، وهو ما سيمد الحكومة بإيرادات معقولة في المستقبل. التصريح الأخير، صدر عن رئيس بعثة صندوق النقد الدولي لدى السعودية تيم كالن، قال فيه: إن الفرص الوظيفية التي أتاحها النمو المتسارع للاقتصاد السعودي خلال الأعوام الخمسة الماضية، ذهب معظمها إلى وافدين بدلاً من السعوديين، وإنّه لا جديد في ملفَي الإسكان والبطالة اللذين سبق للصندوق أن قدّم نصيحته للسعودية في شأنهما. واستدرك قائلاً: ذلك لا يعني أن الحكومة السعودية لم تُقم بتحسينات في أزمة الإسكان والبطالة. ثم ذكر: أنّ من أبرز التحديات التي تواجه اقتصاد المملكة، خلق فرص عمل أمام الشباب السعودي، ما من شأنه زيادة نمو اقتصادها، معتبراً أن أسعار النفط العالمية من أكبر المخاطر التي تواجه الاقتصاد السعودي، خصوصاً أن النفط يسيطر على صادرات السعودية، منوّهاً بالتنوع الاقتصادي الذي حدث في المملكة، لكنَّه على نطاق ضيّق. ثلاثة تصريحات متباينة، صدرتْ من ثلاثة أشخاص تختلف تماماً مواقعهم وتجربتهم، كلّها حول ذات الموضوع؛ الاقتصاد السعودي! وللعلم فلو تتبعتْ التصريحات التي تصدر عن اقتصادنا الوطني خلال شهرٍ على سبيل المثال، فقد تجد أنّك أمام مجلّد وليس مجرد كتاب من التصريحات المتباينة، وأحياناً المتضاربة والمتعارضة تماماً! تضمّنتْ تلك التصريحات عدداً من الأخطاء الجسيمة، سيكون خطأً فادحاً إنْ تُركتْ تمر هكذا دون فحْصٍ ومراجعة واختبار! وسيكون أيضاً خطأً أكبر فداحة وكوارثية، إنْ ترتّب على تلك التصريحات المغلوط بعضها صدور قراراتٍ أو إجراءاتْ معينة. قد يكون صعباً جداً أنْ أستعرض بالحديث والتحليل مجرّد التصريحات الثلاثة أعلاه في هذه المساحة الصغيرة للمقال، فما بالك والعزْم قائم على "فلترة" تلك التصريحات أعلاه وغيرها مما لم يرد ذكره هنا؟! أجد أنّ الأمانة والواجب تقتضي أنّ يتم تخصيص مقالاتٍ قادمة حول تلك التصورات والتصريحات الخاطئة التي بُنيتْ عليها، على الرغم من أنّي كتبتُ وغيري من الكتّاب حولها الكثير من المقالات والتقارير، إلا إنّه كما يبدو من استمرار التصريح بها من وقتٍ لآخر، تتطلّب الحالة بالضرورة التوقّف عندها بصورةٍ أكثر تركيزا وتوضيحا. فإلى الملتقى القريب خلال هذا الأسبوع للحديث عنها بالتفصيل، وبالاعتماد على الإحصاءات والبيانات الرسمية.
إنشرها