Author

تركيا .. اقتصاد متأزم بحكومة مضطربة

|
كاتب اقتصادي [email protected]
«العقل في الرأس وليس في السن» مَثَل تركي سواء صَحَّت التسريبات والمحادثات الهاتفية التي تدين رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، أم لم تصح. وسواء نفذ هذا الأخير تهديداته بحظر مواقع التواصل الاجتماعي المعروفة عن الشعب التركي، ولا سيما “اليوتيوب” الذي احتضن مقاطع الفضائح أم لم يحظر. فالاقتصاد التركي يواجه المتاعب والمصاعب، ومستقبلا لن يكون سهلاً. ليس مهماً الآن نص المحادثات الهاتفية بين أردوغان ونجله، حول تخزين الأموال، أو عن الاتفاق على عمولات، وغير ذلك من قضايا الفساد. سيأتي الوقت الذي ستظهر فيه الحقيقة، حتى لو وضع رئيس الوزراء، القضاء في بلاده تحت جناحيه. وحتى لو جعل من موقع اجتماعي عدواً له. وحتى في ظل تطمينات رئيسه عبد الله جول، بأنه يستحيل حظر المواقع على طريقة أردوغان. فبمجرد تهديده بحظر المواقع الاجتماعية إذا ما فاز في الانتخابات المحلية التي ستجري في 30 من مارس الجاري، هبطت الليرة التركية بصورة ملحوظة بين إغلاقين في يومين متتاليين. وفي “يوم التهديد”، هبط المؤشر الرئيس للأسهم في بورصة إسطنبول 1.42 في المائة. وكأن الاقتصاد التركي قوي إلى درجة تمكنه من تحمل مثل هذه التصريحات، التي تذكر بعدد من رؤساء الدول العربية الذين رحلوا إلى الأبد بطرق مختلفة. وفي الوقت الذي كان على أردوغان أن يواصل فيه استيعاب الضربات التي لم تتوقف جراء خفض إجراءات التحفيز الأمريكية، والمؤشرات التي تدل على أنها ماضية في المستقبل على النهج نفسه، فتح جبهات داخلية، لم تحقق له شيئاً على الأقل في الوقت الراهن. الذي حدث أن ما تبقى من التدفقات المالية الأجنبية الموجودة في تركيا، بدأ أصحابها يفكرون في حزم حقائبهم والمغادرة. ولا سيما مع مغادرة نسبة لا بأس بها من هذه الأموال في الأشهر القليلة الماضية. كل المؤشرات تدل على أن النمو الاقتصادي في تركيا سيتباطأ في العام الجاري، رغم ما حققه الاقتصاد من نمو مرتفع في السنوات العشر الماضية. والليرة التي خسرت أكثر من 20 في المائة من قيمتها أمام الدولار الأمريكي في العام الماضي، خسرت في شهر يناير وحده 10 في المائة أيضاً. ولا شك أن هناك مجموعة عوامل لهذا التدهور. منها محلي داخلي، ينحصر في الارتباك السياسي الذي تعيشه حكومة أردوغان وحزبه الحاكم، ولا سيما بعد سلسلة الفضائح الأخيرة. ومنها خارجي يرتبط بالحالة العامة التي تمر بها حالياً غالبية الأسواق الناشئة، ولا سيما ماليزيا والأرجنتين وجنوب إفريقيا. غير أن تركيا تبقى الأكثر تأثراً بهذه الحالة، التي لن تنتهي بسرعة، بل على العكس ستستكمل ضرباتها في المستقبل؛ لأن العلاج التقليدي الذي اتبعه أردوغان، لم يؤد إلى أي حل، خصوصا اللجوء للاحتياطي المالي لسند العملة. وتشير الأرقام إلى أن قرابة 90 في المائة من الشركات التركية لديها كميات ضخمة من القروض بالعملة الأجنبية، الأمر الذي يضعها بين كفي كماشة، كلما انخفض سعر صرف الليرة التركية مقابل العملات الرئيسة. عند هذا الحد تكون هذه الشركات قد غاصت في بحر من المديونيات، ستصعب عليها مواجهته، في ظل أداء اقتصادي هش، أو في أفضل الأحوال، أداء اقتصادي بلا يقين. لا أحد يستطيع ضمان استدامة الازدهار في أي بلد في العالم. لقد شهدنا كيف جفت اقتصادات قيل إنها لا يمكن إلا أن تواصل الازدهار. بما فيها تلك الاقتصادات التي تتمتع بقدرة ذاتية هائلة، بدت في يوم من الأيام أنها لا تقهر. فكيف الحال ببلد كتركيا لا يعتمد فقط على تدفقات أجنبية، بل ارتبط بسياسات أمريكية اقتصادية متقلبة، أو متغيرة. في العام الماضي، وقبل أن تبدأ أزمة الأسواق الناشئة، اعتبرت مجلة “الإيكونومست” البريطانية الرصينة، أن تركيا نجحت بالفعل في استقطاب تدفقات مالية استثمارية كبيرة، وأن هناك “حالة ازدهار على البوسفور”. لكن بعد عدة أشهر، رأت “الإيكونومست” نفسها، أن الوضع لم يعد كذلك، وأن السوق التركية الناشئة هي الأضعف في العالم. لماذا؟ لجمود تدفقات الرساميل إليها. واليوم، يمثل أداء سوق الأسهم في إسطنبول الحالة الأضعف بالفعل، مقارنة بالأسواق الناشئة المشابهة. إن المستقبل الاقتصادي التركي يواجه حقاً أزمة حقيقية، وآثار الاضطراب السياسي في البلاد، تزيد من صعوبة مواجهة هذه الأزمة، خصوصاً بعد أن تأكد للجميع أن الاعتماد بصورة كبيرة على التدفقات المالية ليس مضموناً، بل من مزايا هذا النوع من التدفقات، أنها الأبطأ في الدخول، والأسرع في الخروج. أردوغان مضطرب. وحكومته كذلك. وحظر “اليوتيوب” و”الفيس بوك” و”تويتر” وغيرها، سيكون بمنزلة مؤشر لتدفق الأموال الأجنبية إلى خارج البلاد. وبدلاً من أن تضع الحكومة الحقائق على الساحة كما هي، اعتبر وزير المالية فيها أن الخسائر الثقيلة التي مُني بها الاقتصاد التركي جاءت نتيجة “استراحة الاقتصاد أثناء التسلق”! إنها في الواقع مرحلة إعادة صياغة قسرية للاقتصاد. فهذا الأخير لم يصل بعد إلى وضعية يمكن له فيها أن يستريح.
إنشرها