FINANCIAL TIMES

التهاب الكبد «سي» .. العلاج لمن يملك الثمن

التهاب الكبد «سي» .. العلاج لمن يملك الثمن

عاشت جيما بيب مع التهاب الكبد الوبائي "سي" عقدين من الزمن هي وابنها الذي أصبح الآن في طور المراهقة، الذي نقلت إليه المرض أثناء ولادته، قبل أن تتلقى أول جولة من العلاجات المؤلمة وغير الفاعلة التي صممت لتجنب إصابة الكبد. وهي تتذكر تلك التجربة بقولها: "كانت الآثار الجانبية رهيبة، فأنت تشعر كما لو أنك مصاب بالإنفونزا، ثم يتملكك الغضب وتفقد اتزانك العقلي. لقد توقف ابني عن الذهاب إلى المدرسة، وأصبح بيتنا مثل حمام دم". لكن منذ 2012 تغيرت حياة هذين المريضين بعد أن تحولا للعلاج بدواء تجريبي كان مفعوله سريعاً وبسيطاً وأكثر فاعلية، ويؤمل أن يصبح قريباً علاجاً لملايين المرضى الآخرين حول العالم. عادت بيب للعمل في بريطانيا، واستأنف ابنها الدراسة بعد انقطاع دام أربع سنوات، وحاز مقعدا في الجامعة لدراسة الرياضيات. وهي تعلق على ذلك بقولها: "هذا أمر مدهش، فكرت في أني سأموت قبل وصولي إلى سن التقاعد، لكني أشعر الآن كأني رجعت إلى الوراء 15 سنة". وفي الأسابيع الأخيرة أطلق الدواء "سوفوسبوفير" Sofosbuvir، وهو الأول في سلسلة من الأدوية الجديدة المضادة لفيروس الكبد الوبائي "سي"، الذي يتوقع أن يحصل على موافقة الجهات التنظيمية. وقد رفع من إمكانية شفاء، واستئصال مرض يفرض عبئاً ثقيلاً على العالم. وستوفر هذه العلاجات الجديدة أيضاً دعماً مالياً لا يستهان به لشركات الأدوية بعد معاناتها فترة كساد إثر إنتاجها عددا قليلا من الأدوية الناجحة، مثل أدوية الستاتين، التي تخفض مستوى الكولستيرول، والتي انتشر استعمالها في التسعينيات. ويتوقع محللون أن تولد علاجات فيروس الكبد الوبائي "سي" إيرادات سنوية بمليارات الدولارات، وأنها ستصبح الأكثر ربحاً من بين حصيلة الأدوية الجديدة. ويقول ديفيد جولدبيرج، اختصاصي الأمراض الوبائية في مؤسسة الوقاية الصحية في أسكتلندا: "هذه لحظة تاريخية بالنسبة لمرض التهاب الكبد الوبائي ـ سي. تتوافر الآن علاجات جديدة وفاعلة للغاية ويسهل إعطاؤها المريض". لكن في واحد من أوجه الشبه الكثيرة بين أدوية مرض التهاب الكبد الوبائي "سي" وفيروس الإيدز، أثار سوفوسبوفير جدلا حول غلاء سعره. مثلا، تطلب شركة جيلياد (ومركزها كاليفورنيا) المنتجة لدواء سوفوسبوفير، الذي يباع تحت العلامة التجارية سوفالدي، 84 ألف دولار مقابل دورة علاجية تستمر 12 أسبوعاً في الولايات المتحدة. ولذلك سيعاني كثير من الأمريكيين المصابين بهذا المرض تكلفة الحصول عليه في السوق الأمريكية. أما في البلاد الأفقر، فمن المرجح ألا يصل إليه سوى عدد أقل حتى من ذلك. وجادلت المؤسسة الطبية الخيرية "أطباء بلا حدود"، أثناء مناقشة حول الموضوع في منظمة الصحة العالمية، بقولها "إن توفُّر أدوية جديدة تؤخذ بالفم سيُحدِث في الأشهر المقبلة ثورة جديدة في علاج التهاب الكبد الوبائي "سي". لكن يتعين على البرامج الحكومية أن تكون قادرة على بذل الجهد المناسب والتصدي للأعباء الحقيقية الناتجة عن هذا الوباء، يجب أن تكون هذه الأدوية ميسرة بتكلفة معقولة". ويوجد نحو 170 مليون شخص في العالم مصابون بفيروس التهاب الكبد "سي". ومثل فيروس الإيدز، يمكن أن ينتقل عن طريق الجنس، ونقل الدم، والحقن التي يشترك فيها الذين يتعاطون المخدرات، ومن الأمهات إلى الأطفال. لكن فيروس الكبد يبدو أقوى على التحمل، إذ ينجو بسهولة من الأدوات الجراحية غير المعقمة جيداً ومن أدوات الوشم على الجلد. وتقول هيئة الصحة البريطانية "إنه يمكن أن ينتقل عن طريق فرش الأسنان المشتركة وشفرات الحلاقة، أو أوراق البنكنوت المطوية من قبل الذين يشمون الكوكايين". وليس هناك لقاح ضد فيروس الكبد، أو فيروس الإيدز، وهما يأخذان في العادة عدداً من السنوات قبل أن تتطور الأعراض. وغالباً يظل كل واحد منهما فترة طويلة دون تشخيص، ما يجعل المعالجة النهائية منهما أصعب وأكثر تكلفة ويزيد من خطر انتقالهما عن غير قصد إلى الآخرين. وإذا تُرِك فيروس الإيدز دون علاج فإنه يعرِّض الجسم لخطر الإصابة بالالتهابات التي تنتهز الفرص في جسم الإنسان، ويؤدي إلى الموت بصورة حتمية تقريباً. في المقابل، يقاتل الجسم فيروس الكبد في نحو 25 في المائة من الحالات. وفي بريطانيا وبلدان أخرى في الوقت الحاضر يموت من فيروس الكبد عدد أكبر من الذين يموتون بسبب فيروس الإيدز. وعلى مدى 20 سنة أو أكثر، ظل فيروس الكبد يؤدي إلى أمراض الكبد الأخرى. وهو المسؤول النهائي عن معظم حالات تليف الكبد وسرطان الكبد. وكثير من الذين يصابون بالفيروس يمكن أن يستهلكوا دون قصد كميات كبيرة من الكحول، ما يزيد من حدة آثار المرض في الكبد ومفاقمتها. والعلاج مرهق ومنهك. يحتاج المريض إلى سنة من الحقن المنتظمة من الإنترفيرون وابتلاع حبوب ريبافيرين، التي تسبب آثاراً جانبية شديدة. وفي أحسن الأحوال، لا يتعافى من المرض إلا نصف الأشخاص الذين يكملون العلاج. ويقول باري بيرنستاين، رئيس قسم برامج تطوير الأدوية المضادة للفيروسات في AbbVie، وهي شركة أدوية أخرى تستعد لإطلاق أدوية جديدة: "هذه العلاجات ذات سمية عالية للغاية. كثير من المرضى يمتنعون عنها لأنها مرهقة. والشخص الذي يُعطى حقنة مساء الجمعة ربما يقضي عطلة نهاية الأسبوع في السرير وهو يعاني أعراضا شبيهة بالإنفلونزا، ولا يستطيع الذهاب إلى العمل". وهذا يفسر الإثارة التي تحيط بالجيل المقبل من الأدوية. وأوجه التشابه بين الفيروسين تعني أن مليارات الدولارات التي استُثمِرت في الجامعات والشركات لتطوير عقاقير لفيروس الإيدز على مدى السنوات الـ 30 الماضية ساعدتنا على فهم كيفية التعامل مع فيروس الكبد. وكثير من الباحثين، مثل بيرنستاين، عملوا على المرضين. وكذلك فعلت أكثر من عشر من شركات الأدوية. فإلى جانب AbbVie وجلياد، هناك شركات صيدلانية كبيرة في المجال، مثل بريستول مايرز سكويب، وميرك، وروش، وجونسون آند جونسون، وجلاكسو سميث كلاين. وبعض العقاقير التي يدرسها الباحثون – مثل مثبطات البروتيز، المصممة لمنع الفيروسات من التكاثر – لها تركيب كيماوي قريب من أدوية فيروس الإيدز. واكتشف الباحثون الذين يعالجون الإيدز الحاجة إلى مهاجمة الفيروس في وقت واحد بأنواع مختلفة من الأدوية، يفضل أن تكون في حبة واحدة. وهم يطبقون الآن المبدأ نفسه على فيروس الكبد. ويقول جون ماكهتشيسون، النائب الأول للرئيس لعلاجات أمراض الكبد في جلياد: "كانت هناك نتائج ثانوية من أبحاث فيروس الإيدز. الفيروسات متشابهة ولديها قدرة عالية للغاية على التكاثر بمعدلات كبيرة. هناك نظام لزراعة الخلايا قابل للإنتاج بدرجة عالية لاختبار الجزيئات". ولا تزال الأنظمة تقتضي إجراء التجارب السريرية والخضوع للتمحيص من قبل الأجهزة التنظيمية قبل الموافقة على كثير من أدوية فيروس الكبد ويصبح من الممكن استخدامها دون الحاجة إلى الإنترفيرون وحبوب ريبافيرين. وليست جميع هذه الأدوية فاعلة بالدرجة نفسها ضد السلالات المختلفة، ولا للمرضى الذين يعانون تعقيدات طبية أخرى. لكن النتائج الإيجابية في مرضى مثل بيب وابنها (الذي استخدم مركباً تجريبياً من AbbVie) أثارت الانتباه وساعدت كذلك على تحفيز الاستثمارات من قبل شركات الأدوية. يقول أولي فانكهاوز، الرئيس العالمي لاستراتيجية المنتجات في روش: "هناك آمال كثيرة معلقة بهذه الأدوية. سيأتي السباق إلى السوق، وستنتج عنه منافع هائلة للمريض مع فرصة للشفاء بنسبة 90 إلى 95 في المائة". وشهدت شركة فيرتيكس، وهي أول شركة توصلت إلى فتح مهم في الفترة الأخيرة في التهاب الكبد "سي"، اندفاعاً في تقييمها عندما أطلقت الدواء Incivek في 2011، الذي ولد مبيعات بلغت 1.6 مليار دولار خلال الشهور الـ 12 الأولى من وجوده في السوق. وهناك إشارة أقوى حتى من ذلك حول الإمكانيات العلمية والتجارية التي تنطوي عليها العلاجات الجديدة، جاءت حين فاجأت جلياد الأسواق بشرائها شركة فارماسيت في 2012 مقابل 11.2 مليار دولار. وهذا أعطاها السيطرة على العقار سوفالدي، الذي كان في مرحلة تجريبية في ذلك الحين. وفي مذكرة بحثية في الأسبوع الماضي، توقع باركليز كابيتال أن تولد "جلياد" 416 مليون دولار من مبيعات العقار في الربع الأول من هذه السنة فقط. وقالت المذكرة: "إن إطلاق "سوفالدي" الذي يتوقعه كثيرون على نطاق واسع ويراقبونه عن كثب، كان أداؤه حتى الآن في مستوى التوقعات إن لم يكن أكثر منها". وتوقع آخرون أن "سوفالدي" سيتقدم على Incivek ليكون أسرع إطلاق للدواء في الصناعة، وسيولد 2.5 مليار دولار هذا العام. وترى شركة EvaluatePharma للاستشارات أن هذا الدواء "يمكن بكل سهولة اعتباره أهم الأدوية الجديدة من حيث القيمة". وتشير تقديراتها إلى أن المبيعات السنوية للدواء يمكن أن تصل إلى 7.4 مليار دولار بحلول 2018. وتقول شركة داتا مونيتور، المختصة في أبحاث السوق، "إن سوق جميع أدوية فيروس الكبد ستبلغ قيمتها الإجمالية 15.5 مليار دولار بحلول 2022". لكن استراتيجية "جلياد" أثارت انتقادات حول سرعة العملية والأسعار المرتفعة لأدويتها التي تجعلها بعيدة عن متناول كثير من الناس – وهي انتقادات يرجح لها أن تثار ضد الشركات المشابهة. وهذا علامة على جانب آخر مواز بين فيروس الكبد وفيروس الإيدر، وهو الناشطون المدافعون عن المرضى. ولعدة سنوات كان مرضى الإيدز في طليعة الحملات الطبية المدافعة عن المرضى، وكانوا يلجأون إلى الاعتصامات والمظاهرات والضغط السياسي لتسريع التمويل والأبحاث وتوفير العلاج. لكن التهاب الكبد الوبائي لم يكن قط بارزاً على المسرح السياسي إلا أن أشخاصاً كثيرين، بمن فيهم الذين يعانون الفيروسين، يعيدون الآن استخدام طاقاتهم من فيروس الإيدز إلى قريبه فيروس الكبد. ويجادل المنتقدون بأن "جلياد" أخرت إطلاق تشكيلة علاج فيروس الكبد، القادرة على إحداث تغيير مهم للغاية في حياة المرضى، لأنها رفضت اختبار "سوفالدي" بالاقتران مع مركب "داكلاتاسفير" الذي تصنعه بريستول مايرز سكويب، رغم أن النتائج تبين أن اقتران العلاجين معاً يولد معدلات شفاء عالية. وبدلاً من ذلك جمعت "جلياد" بين "سوفالدي" والدواء "ليديباسفير"، وهي تشكيلتها العلاجية التجريبية الخاصة بها، التي كانت متخلفة في السباق للحصول على موافقة الجهاز التنظيمي. كذلك وضعت الشركة سعراً عالياً للدواء سوفالدي، وتجادل بأن سرعة الدواء وكفاءته تبرران دفع علاوة فوق العلاجات الحالية لفيروس الكبد – ناهيك عن الحاجة إلى استرداد تكاليف تطوير الدواء وتكاليف الاستحواذ على "فارماسيت" التي بلغت 11 مليار دولار. ويجادل أندرو هيل، وهو باحث في جامعة ليفربول، بأن الأدوية الجديدة المضادة لفيروس الكبد يمكن تصنيعها مقابل 100 أو 200 دولار فقط للدورة العلاجية، وأن الأحجام الكبيرة للمبيعات من شأنها أن تعوض عن الأسعار القليلة. ويقول: "السؤال هو ما إذا كنتَ تريد أن تعالج عدداً قليلاً من المرضى وبأحجام قليلة وهامش مرتفع، وأن تترك الوباء مستمراً لعقود، أو تريد علاج عدد أكبر من الناس مع فرصة استئصال المرض". ويضيف: "بالنظر إلى الحجم الإجمالي للوباء، حتى لو قُلِّصت الأسعار إلى عُشْر ما هي عليه، فسيظل بإمكان الشركات تحقيق الأرباح". ويشير إلى أن في بريطانيا وحدها يكلف علاج كل من يعانون المرض، بحسب الأسعار الحالية، 13 مليار دولار، وهذا المبلغ يزيد على الفاتورة التي تدفعها هيئة الصحة البريطانية مقابل جميع الأدوية. وبسبب نجاح حملات الناشطين لتوسيع نطاق الأدوية المضادة لفيروس الإيدز ليشمل البلدان الفقيرة، شعر المدافعون بالتشجيع لفعل الشيء نفسه بخصوص فيروس الكبد. وأطلقت جماعات هندية تحدياً قانونياً لطلب "جلياد" للحصول على براءة اختراع "سوفالدي"، حيث تسعى للسماح لشركات الأدوية الموازية بتصنيعه بتكلفة أقل. وتقول لينا منجاني، من "أطباء بلا حدود"، "حين يرى الآخرون أنك تستطيع تحقيق آثار قوية فعلاً عن طريق الأدوية التي تؤخذ بالفم، فإن هذا ينتشر عبر الجماعة بسرعة كبيرة". وتضيف: "يقود الحركة أشخاص لا يخشون التظاهر أو الذهاب للسجن. إنهم على استعداد لفعل أي شيء للحصول على العلاج". ويشير جون ميليجان، كبير الإداريين التشغيليين في "جلياد"، إلى أن "سوفالدي" يعطي اختصاراً للوقت والتكاليف يفوق ما لدى الأدوية الأخرى المضادة لفيروس الكبد – خصوصاً حين نأخذ في الحسبان التوفيرات التي يمكن الحصول عليها من تقليص نطاق مرض الكبد. لكنه تعهد أيضاً بالبحث عن طرق لجعل الدواء متاحاً بصورة أرخص في البلدان ذات الدخل المتدني، كما فعلت "جلياد" في أدويتها المضادة لفيروس الإيدز، المستخدمة على نطاق واسع. وعلى خلاف الإيدز، يشير ميليجان إلى عدم وجود جهات مانحة للمساعدة في تكاليف علاج فيروس الكبد. وهناك سمة أخرى مشتركة بين فيروسي الكبد والإيدز، وهي الحاجة إلى الوقاية. ويظل عدد الإصابات الجديدة عالياً بسبب التشخيص غير السليم، إلى جانب المعايير المتدنية لضبط الدم والعدوى. ولأن الجيل الجديد من الأدوية أصبح متاحاً الآن، فمن المتوقع أن تشتد الضغوط على الحكومات لشرائها – وعلى الشركات لجعلها متاحة بأسعار ميسورة. تشارلز جور، رئيس التحالف العالمي لالتهاب الكبد، وهو منظمة تضم الجماعات المدافعة عن المرضى، يحذر قائلاً: "هذه ظاهرة فيروس الإيدز مرة أخرى. أرجو ألا نضطر إلى ارتكاب الأخطاء نفسها ونتعلم بدلاً من ذلك من الدروس المؤلمة. أم أن الشركات ستنتظر حتى يأتي الناشطون ليشعلوا النار في أجنحتها في المؤتمرات العلمية"؟
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES