ثقافة وفنون

«اللوح الأزرق» .. النموذج الفرنسي للرواية التاريخية

«اللوح الأزرق» .. النموذج الفرنسي للرواية التاريخية

قبل الذهاب بعيداً في الكلام عن رواية "اللوح الأزرق" الصادرة عن دار الجمل, ربما تجدر الإشارة إلى أن مؤلفها الروائي الفرنسي جيلبرت سينويه غادر القاهرة, العاصمة المصرية, عندما كان في عمر التاسعة عشر, وبعد دراسته في مدرسة كاثوليكية يسوعية فيها إلى فرنسا لدراسة الموسيقى في معهد الدراسات الموسيقية في باريس. وأصبح عازف جيتار, ثم ابتدأ بالكتابة. في عام 1987 وفي عمر الأربعين أصدر روايته الأولى "المخطوط القرمزي". سأوجز بالقول إن روايته "اللوح الأزرق" تتحدث عن لوح فيه رسالة فيها الدليل الدامغ على إثبات وجود الخالق. اللوح مخبأ في مكان ما. إذ يبدأ الثلاثي "الشيخ ابن سراج" و"الحبر صموئيل عزرا" و"الراهب رافائيل فارغاس" في رحلتهم للبحث عن ذلك الفردوس الأرضي من خلال محاولة فك ثماني شفرات خبأها حامي اللوح "ابن برول". الرواية كبيرة، من الجوانب كافة، سواء على المستوى المادّي من حيث عدد صفحاتها الـ 564، أم على المستوى المجازي المتمثّل بما ترمي إليه الرواية من تقارب مرجوّ بين معتنقي الديانات السماوية الثلاث. أجد أنّ أفضل وسيلة لتفكيك هذا البناء الروائي الضخم هو تقسيمه إلى حيثياته الأولية، بحيث تسهل الرؤية علينا كقرّاء. الزمان والمكان تدور الأحداث في أواخر القرن الخامس عشر، زمن محاكم التفتيش، الأندلس - أو ما تبقّى من أشياء كانت تدعى الأندلس (إسبانيا). لكن ربما يكون من الإجحاف محاكمة الرواية بناء على معايير مسبقة، فإن تقرأ عددًا من الروايات التي تستند إلى التاريخ في بنائها للنص، وتجد وصفًا بديعًا للمكان، لا يخوّلك لأن تعمّم ذلك على باقي الروايات التي تنتهج المسلك ذاته. سأقول من باب الموضوعية، إن النص افتقر إلى الإبداع المكاني، الصورة كانت باهتة ومشوّشة، لا شيء يميّز إسبانيا (بقايا الأندلس)، ورغم أن النّص اعتمد كثيرًا على الشكل المعماري، خاصّة في الأبراج التي خبّأ فيها "ابن برول" شيفرة ما، إلا أن خيال سينويه لم يسعفه ليوصل الصورة كاملة. لكن، لنتوقّف قليلا، ولنعطِ كل ذي حق حقّه، هل هذا ما أراده سينويه؟ هل كان يشغله المكان حقيقة؟ أرى أنه أبعد ما يكون عن الانشغال المكاني، فقد سخّر كل أدواته لخدمة الحدث الأكبر، اللّوح الذي يضمّ الحكمة اللا نهائية. وهذا ما قد يدفعنا لنتجاوز – غير منزعجين – عن ضعف الصورة، إلى عمق الغاية. شخوص الرواية يفاجئنا النّص منذ صفحاته الأولى، بأحد أبشع الأحداث التي ستظل وصمة عار في تاريخ البشرية؛ محرقة جماعية للمهرطقين الذين أدانتهم محاكم التفتيش. الكثير من "المارقين" الذين يتوسّلون إلى شيء من الرّحمة، إلا واحدا منهم يثير العجب، إذ يبتسم وهو على حافّة الموت. نكتشف مع مرور الصفحات أنه "ابن برول" صاحب الحظوة، وسليل العائلة التي خصّها الله بالعناية باللوح المقدّس (اللّوح الأزرق/كتاب السفير). أطلّ الله عليه برسالة من خلال اللوح، أخبره فيها بأنّ حياته قد شارفت على الانتهاء، وما عليه فعله ليضمن عدم ضياع اللوح؛ كأنّما لم يوجد "ابن برول" إلا ليكون ناقلا، لذا يزول العجب حين نراه يبتسم وهو يقابل الموت بأريحيّة كاملة، إذ استطاع أن يكون خير ناقل. يترك "ابن برول" خلفه ثماني شيفرات (يسمّيها قصورًا) بالغة التعقيد والحنكة، وهو ما يحيلنا بطبيعة الحال إلى المؤلف ذاته (جيلبيرت سينويه)، ففي النهاية هو من صاغ تلك الشيفرات. كلام مقطّع، جزء منه من التوراة وآخر من الإنجيل وآخر من القرآن. وهذا ما يفصح عن رغبة المؤلّف منذ البداية في خلق آصرة ما بين الديانات الثلاث. ثلاثة أجزاء، يعني وجود ثلاثة أشخاص يثق بهم "ابن برول"؛ "الشيخ ابن سراج" و"الحبر صموئيل عزرا" و"الراهب رافائيل فارغاس".التقاء كل هذه الكراهية المتجذّرة (عِداء معتنقي الأديان المختلفة) في مكان واحد، لا بدّ أن ينشأ عنه نفور يصاحبه تقريع قد يصل حد التقليل وإهانة الشخص المقابل. هذا يحاجج ذلك بكتابه، وآخر يرد عليه بكتابه أيضًا، كل ذلك من خلال حوارات لا أستطيع وصفها إلا بالمذهلة. حريّ بنا ألا نغفل عن مسيحيّة الكاتب، فعرضه جميع الآراء على أرضية واحدة، دونما أي تلاعب يرجع لمعتقده؛ زاد مصداقية وحميمية تلك الحوارات. ينطلق الثلاثة في رحلتهم للبحث عن اللوح الأزرق أو كتاب السفير كما ذكر في الرواية، واضعين حيواتهم السّابقة في مهبّ الرّيح، مستغنين عن كلّ شيء، غير آبهين سوى للحقيقة، والحقيقة وحدها. حدث أن سألت نفسي، أليست رحلة جافّة تلك التي يخوضها ثلاثة رجالٍ ينفرون من بعضهم على أهون سبب؟ إلا أن سينويه ما لبث أن أبعد ذلك التساؤل، بزجّه بـ "مانويلا فيفيرو" الدّسيسة من قبل الدّولة، بعد اكتشافها لرحلة الثلاثي التي تتهدّد أمن البلاد (كما يظنون). مانويلا شكّلت نقطة الاتّزان والقلق في اللحظة ذاتها في سير الأحداث، إذ نعرف من سياق الأحداث أنّها امرأة مثقّفة، تمتلك معايير أخلاقيّة، وليست لائقة لتشكل الجزء المظلم في الرّحلة، لكنّها بدهاء كبير تحترف الكذب بداية كي تنال ثقة الثلاثي في رحلتهم. كما أن لسنّها الصغيرة ووجود راهب في مثل عمرها تقريبا، يتهدّد سير الرّحلة الطويلة، بعلاقة نستطيع أن نحدس بها منذ انضمامها للجماعة. الحبكة تقوم الرواية بشكل أساسي على تفكيك نصوص "ابن برول". النصوص التي بدت للوهلة الأولى مجرد طلاسم أقرب للعبة الـ Puzzle منها إلى كلمات ذات معنى، وهنا تتدخل أصابع روائي فذ، في حل المسألة تدريجيا، عن طريق سعة معلومات الحبر والشيخ والراهب، إضافة إلى منويلا التي كان عليها أن تدلي بدلوها لكيلا يشكّوا في عمالتها. للحظات تشعر بأن هذا الرّباعي يحفظ تاريخ البشريّة بأكمله، كما لو أنّه كتاب مفتوح ويقرأون منه. تتسارع وتيرة الأحداث في مواضع لتتباطأ في أخرى، وأي قارئ يستطيع أن يستشف الرغبة لدى سينويه في كتابة رواية سريعة الوتيرة، لكن هل يستطيع ذلك؟ إن كم المعلومات اللاهوتية، والمعرفية في الرواية يحتّم عليها أن تكون مثقلة إلى حد الإشباع، بحيث تبدأ الصفحات تجر بعضها بتثاقل ملحوظ، ومع ذلك فقد استطاع سينويه أن يشدّ القارئ إلى صفحاته، ما يشير إلى تمكّنه من أدواته الروائية وتحكمه بها جيدًا. ثم هناك اللّوح، اللّوح الذي يترتّب عليه تغيير مصير البشريّة كما يدور في حوارٍ بين "الشيخ ابن سراج" و"الحبر صموئيل عزرا": " - هل تصدّق هذه الحكاية؟ حكاية اللوح الأزرق أو إن شئت الدّقة كتاب السفير؟ - وماذا لو ألقيت عليك السؤال نفسه؟ - اسمع يا عزيزي، أنا وأنت أذكى من أن نهدر وقتنا في مثل هذه اللعبة. أجبني هل تصدّق أم لا؟ - وماذا لو قلت لك إنّي أصدّق؟ أمال ابن سراج رأسه إلى الخلف وشرد بذهنه للحظة. - أعترف بأنّ الأمر لو صحّ لفاق كلّ تصوّر". مع كلّ شيفرة يتمّ فكّها يلوح طرف من اللّوح في الأفق. الحقيقة الكلّية، تكمن هناك على بضع سنتيمترات من الخشب. يظلّ سؤال/هاجس يتردد في البال: هل سيصلون له؟ أم أننا أمام رواية عبثية أخرى، لن تفضي بالقارئ إلى شيء. ربّما هذا سؤال موجه للقارئ أكثر منه لكاتب مقالة عن رواية، لذا سأكتفي بطرح هذا السؤال، لعلّ قارئًا ما يعرف الإجابة بنفسه. يستطيع المطّلع على روايات "دان براون" أن يلحظ العديد من نقاط الالتقاء بينه وبين هذا العمل، فكلا الكاتبين يعتمد الشيفرة كوسيلة للدخول إلى العالم الروائي. وكلاهما يتكئان على الجريمة، كعنصر مفاجأة أوّلي. ما أريد قوله، هو كم البخس الذي طال هذا العمل، مقارنة بما حققه دان براون في "شيفرة دافنشي" على سبيل المثال. لا أودّ أن يُفهم كلامي على أنه تقليل من كاتب على حساب آخر، فمبتغاي الوحيد هو إعطاء شيء من الاستحقاق لهذا العمل، وكاتبه الذكيّ.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون