العالم

أي مستقبل ينتظر حزب العدالة والتنمية التركي؟

أي مستقبل ينتظر حزب العدالة والتنمية التركي؟

أي مستقبل ينتظر حزب العدالة والتنمية التركي؟

تهز مجدداً أزمة سياسية حادة حزب العدالة والتنمية التركي، وتكاد تكون الأعنف منذ بدأ الحزب بالهيمنة على المشهد السياسي في عام 2002. بدأت الأزمة في ديسمبر (كانون الأول) الماضي بعد اتهامات رسمية لمسؤولين كبار في الدولة بالفساد، بينهم أبناء وزراء، ورجال أعمال، بالإضافة إلى بعض كبار الشخصيات من الحزب الحاكم بتهم تتعلق بتبييض أموال وقضايا فساد أخرى. كان يمكن أن تمر هذه الأزمة السياسية دون أن تحدث جدلا واسعا في المجتمع التركي لولا الصراع الذي اندلع على أثرها بين حزب العدالة والتنمية وأنصاره من جهة، وجماعة "فتح الله غولن"– التي يطلق عليها أيضاً اسم الخدمة- من جهة أخرى، حيث ينتمي الطرفان إلى حركات الإسلام السياسي التركي. استمر الحزب والجماعة حتى عام 2010 في تحالف سياسي دعم خلاله كل منهما الآخر. فبينما ساندت الجماعة أردوغان في الانتخابات وفي خطواته الساعية إلى إضعاف سطوة الجيش على السياسة من خلال نفوذها داخل جهازي الشرطة والقضاء، عززت حكومة أردوغان من قوة أعضاء الجماعة والمقربين منها داخليا وخارجيا. لكن خلال السنوات القليلة الماضية توترت العلاقة بين الحزب والجماعة حول مجموعة من القضايا المرتبطة بكيفية التعاطي مع حل الأزمة الكردية، الإصلاح الديمقراطي في تركيا، وعلاقات تركيا الخارجية، ما أدى إلى نشوب أزمة بين الطرفين وصلت إلى طريق مسدود بعدما قررت حكومة العدالة والتنمية إلغاء "المدارس التحضيرية"، التي تتمتع جماعة غولن بنفوذ واسع داخلها وتستخدمها في استقطاب أعضاء جدد وفي تأمين بعض مصادر التمويل المتدفقة منها. وحسب أدبيات الحركات الاجتماعية، فإن انقسام النخبة أو خسارة تحالفات مهمة وفعالة قد يؤثر بصورة مباشرة على أداء الحركات الاجتماعية وقدرتها على التفاعل مع التغيرات السياسية؛ فتوقيت الكشف عن قضايا الفساد وتصدع العلاقة بين حزب العدالة والتنمية بالتزامن مع اقتراب موعد ثلاثة استحقاقات انتخابية تبدأ في مارس (آذار) هذا العام بالانتخابات البلدية مروراً بالانتخابات الرئاسية في أغسطس (آب) من نفس العام وانتهاءً بالانتخابات البرلمانية في يونيو (حزيران) 2015، دفع العديد من المتابعين للشأن التركي إلى توقع انتهاء هيمنة حزب العدالة والتنمية، ولا سيما زعيمه رجب الطيب أردوغان على المشهد السياسي التركي، وربما إعادة رسم المشهد السياسي التركي بكامله. كما توقع آخرون قيام الجيش التركي بالتدخل مجددا في الحياة السياسية على غرار ما حصل في مصر في الصيف الماضي. ربما يخسر حزب العدالة والتنمية نسبة لا بأس بها من الأصوات الانتخابية، ولكن يبقى السؤال المهم: هل انتهى عصر الإسلام السياسي في تركيا- أو النموذج التركي- كما يحاول بعض الباحثين والمثقفين تصويره؟ تربط هذه القراءة وبشكل وثيق بين التجربة التركية وعملية الانفتاح السياسي التي سمحت لها بالمشاركة السياسية وأحيانا بالفوز في الانتخابات- كما في تجربة حزب الرفاه بزعامة نجم الدين أربكان في منتصف تسعينيات القرن الماضي- سواء على المستوى المحلي أو الوطني. غير أن مثل هذه القراءة تعد اختزالا للمشهد التركي الذي شهد خلال العقود الأربعة الماضية تحولات جذرية مهمة عَزَّزَت من واقع حركات الإسلام السياسي ليس فقط في الهيمنة على المشهد السياسي، بل في التغلغل في المجتمع والاقتصاد التركي كذلك. فقوة النموذج التركي لم تأت فقط من خلال قدرة حزب العدالة والتنمية على الفوز في ثلاثة استحققات انتخابية متتالية، وتوسيع قاعدته الانتخابية من 34 % في عام 2002، إلى 46 % في عام 2007 إلى 50 % في عام 2011، بل من خلال الدعم اللامحدود الذي تلقاه من شرائح واسعة ومتنوعة من الشعب التركي كانت حتى فترة قريبة مهمشة تحت حكم الكمالية الأتاتوركية. وهو ما أدى بدوره، إلى تغيير موزاين القوة داخل المجتمع بعد أن انتقلت حركات الإسلام السياسي من الهامش إلى المركز، بينما فقدت القوى العلمانية قسما كبيرا من نفوذها السياسي والاقتصادي بعد أن قام حزب العدالة والتنمية بصورة تدريجية ولكن فعالة بإضعافها وتهميشها. لم يعد الإسلام السياسي منذ ثمانينيات القرن الماضي على أطراف المجتمع، بل تغلغل في كل مناحي الحياة وخاصة الاقتصادية منها؛ فمنذ تأسيس الدولة التركية الحديثة في عام 1923 على يد مصطفى كمال أتاتورك، استمرت الدولة في السيطرة على الاستثمارات، والصناعات الثقيلة، والبنية التحتية وقطاع الطاقة. غير أن عملية "اللبرلة" والإصلاح الاقتصادي الذي قاده رئيس الوزراء التركي تورجت أوزال في بداية ثمانينيات القرن الماضي، قد أدت إلى قلب معادلات القوة وظهور فرص جديدة في الاقتصاد، والسياسة والتعليم والإعلام لشرائح اجتماعية جديدة، ما أدى إلى تزايد الحراك الاجتماعي والسماح للاعبين جدد ليس فقط في الظهور، بل وتأسيس أعمالهم الخاصة بهم مما فتح المجال مواربا أمام شرائح اجتماعية جديدة للصعود إلى القمة بغض النظر عن انتمائهم الثقافي، أو الديني أو معتقداتهم السياسية. والمعلوم أن هذا قد أضعف، وبشكل متدرج هيمنة الدولة الكمالية وحلفائها من الطبقة المتوسطة والعليا على الاقتصاد التركي. وفي نفس الوقت، سمح ببروز طبقة برجوازية إسلامية جديدة لم تكن متبلورة من قبل، التي تميزت بالطموح، والعلم، والتدين والسعي إلى النجاح. إن تَوَسُّع نفوذ البرجوازية الإسلامية الصاعدة في الاقتصاد والمجتمع التركي أسهم وبشكل مباشر في تأسيس جمعية رجال الأعمال والصناعيين المستقلين (الموصياد) في مطلع تسعينيات القرن الماضي. وبالرغم من أن موصياد لم تكن مرتبطة مباشرة بالحركة الإسلامية التركية، التي تمثلت في تلك الفترة في حزب الرفاه الإسلامي تحت زعامة نجم الدين أربكان، إلا أنها شكّلت رافعة اقتصادية وسياسية مهمة لحزب العدالة والتنمية عند تأسيسه؛ فحسب الباحثة التركية بني أوليغر (Banu Eligur) فقد تنامت عضوية الموصياد من 400 عضو في عام 1991 إلى ما يزيد على ثلاثة آلاف بحلول عام 1998 يمثلون قرابة العشرة آلاف مشروع اقتصادي، ويعمل بها ما يقارب نصف مليون عامل. ومن هنا فقد تم تسخير هذه القاعدة الاقتصادية العريضة لدعم تأسيس حزب العدالة والتنمية وفتح فروع له في بعض المدن التركية من خلال مجموعة واسعة من شبكات الخدمات الاجتماعية، ومحطات الإذاعة والتلفزة والجرائد. فعلى سبيل المثال، روجت صحيفة يني شفق (Yeni Safak) المقربة من موصياد لصالح حزب العدالة والتنمية وقامت بشكل مكثف بدعم الحزب وأفكاره. وبعد قرابة العقد من حكم حزب العدالة والتنمية، تمددت الموصياد بشكل مطرد داخل تركيا وخارجها بعد أن استفادت من الفرص الواسعة التي قدمها الحزب للمؤسسة. فقد ارتفعت عضويتها حسب موقع المؤسسة على الشبكة العنكبوتية إلى خمسة آلاف عضو يمثلون 15 ألف شركة بحلول عام 2012. وتستثمر هذه الشركات ما يقدر بأكثر من خمسة مليارات دولار سنوياً، وتصدر ما يقارب 17 ملياراً أخرى. كما أنها توظف أكثر من مليون و200 ألف عامل وموظف، ما أهلها لتكون قاعدة اقتصادية واجتماعية عريضة لحزب العدالة والتنمية. إن من المحتمل أن يكون بمقدور حزب العدالة والتنمية استيعاب تأثير انقسام النخبة السياسية على نتيجة الانتخابات المقبلة، غير أنّ مصير الحزب والتجربة التركية الإسلامية بشكل عام سيحددهما موقف قوى اجتماعية واقتصادية متنوعة ساندت الحزب منذ اليوم الأول، كما في حالة الموصياد. فالموصياد ذات النفوذ الواسع في تركيا وخارجها والمكونة من خليط متنوع من رجال الأعمال– بعضهم من مؤيدي فتح الله غولن- غير سعيدة بالصراع الدائر بين أردوغان وجماعة غولن، كما يستشف من تصريحات بعض أعضائها. وعلى الرغم من عدم وجود أية بوادر أزمة ما بين الحزب والموصياد في الوقت الراهن إلا أن تطورات المشهد السياسي وتأثيراته الاقتصادية يمكن أن تغير خريطة القوى على الأرض، حسبما تتوقع الباحثة والخبيرة التركية ملتم كولشتان ((Meltem Kulacatan؛ فالأزمة الاقتصادية التي تضرب الاقتصاد التركي، وتراجع الليرة التركية إلى مستويات قياسية بالإضافة إلى سحب بعض الاستثمارات الأجنبية من تركيا، يمكن أن يكلف أردوغان ليس فقط قسما من أصوات الناخبين، بل جزءا من تحالفاته الاقتصادية كذلك، والتي يمكن أن تحدد ملامح مستقبل الحزب وزعيمه أردوغان. * باحث في مركز إرلنجن لدراسة الإسلام والقانون في أوروبا
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من العالم