Author

فلوس .. و«حُسن تدبير»

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
تمازجتْ آثار المتغيرات والتطورات الاقتصادية والمالية المتسارعة خلال السنوات العشر الأخيرة، بصورة أربكتْ أغلب واضعي السياسات الاقتصادية والمهتمين، وقبلهم جميعاً الأفراد. اقتضى الأمر وما زال القيام بمراجعة معطيات اقتصادنا المحلي كافّة، بدءاً من السياسات القائمة وضرورة إعادة تقويم الجدوى من بقائها أو عدمها، مروراً بالتغيرات العميقة التي طرأتْ على تضاريس الحياة الاقتصادية محلياً في مختلف اتجاهاتها، وفي مقدمتها النّواة الأهم للتنمية المستدامة "المواطن"، وانتهاءً بالنتائج والمخرجات التي أصبح عليها حال اقتصادنا الوطني. ليس هذا كلاماً إنشائياً، ولا يمكن أن يكون الهدف منه ذلك! فلم أجد "مفتاحاً" ذهنياً لما سأطرحه هنا سوى هذه المقدمة القصيرة. وكي أنتقل للفكرة الرئيسة للمقال، لنطرح معاً بعض الأسئلة المعلقة منذ فترة دون إجابة "عمليّة" على أرْض الواقع، كون الإجابة "الشفهية" و"المكتوبة" تجدها منثورة كضباب "جبال السراة" أينما اتجهتْ بناظريك عبر أثير الإعلام الفسيح، وفي أصقاع شبكة الإنترنت لا المتناهية، غير أنّها لم ولن تسمن ولا تغني من جوع. دوّن الأسئلة التالية في ذاكرتك "كعيّنة" من أسئلة واسعة العدد، حول عدد من المؤشرات الاقتصادية والإنمائية، قارن فيها خلال عقد من الزمن بين قيمها في ذلك التاريخ مع قيمها في تاريخنا الراهن، لنتعرّف على موقعنا اقتصادياً وإنمائياً، هل تقدّم أم تأخّر أم بقي ثابتاً لم يتغيّر! إليك هي كالتالي على سبيل المثال لا الحصر: (1) نسبة تملّك المواطنين للمساكن. (2) معدل البطالة. (3) معدل التضخم. (4) الدخل الحقيقي للفرد، ومدى كفايته لتلبية متطلبات معيشة أسرته. (5) معدل الفقر وذوي الدخل المحدود. (6) معدل إنتاجية الفرد والاقتصاد. (7) درجة تنوّع القاعدة الإنتاجية للاقتصاد الوطني، ومساهمتها في النمو الاقتصادي. (8) معدل التعليم العالي بين صفوف العاطلين من المواطنين عن العمل. (9) حجم ونسبة المديونية على الحكومة والقطاع الخاص والمواطن. (10) حجم وعدد الخيارات الإنمائية أمام المواطن، ودرجة سهولة حصوله على تلك الخيارات. (11) درجة التركّز "الاحتكار" في القطاع الخاص. (12) نسب الدعم والمعونة الحكومية للاقتصاد. (13) مستوى الخدمات لقطاعات البلدية والنقل والصحة والتعليم والنواحي الاجتماعية. (14) مساهمة المنشآت الصغرى والمتوسطة في النشاط الاقتصادي. (15) معدلات تعثّر المشروعات العامّة، ونسب الفساد الإداري والمالي. وكثيرٌ من الأسئلة الأخرى، لو وضعتها لأخذت المساحة كاملة المتاحة للمقال أو أكثر. الأهم هنا، أنّ الفكرة الرئيسة من تلك الأسئلة وغيرها أصبحتْ حاضرة في ذهن القارئ الكريم. قد يأتي قائل؛ إن كل المتغيرات والظروف محلياً وعالمياً مرّت بتغيرات جذرية، وإنّ حياة المجتمع السعودي وظروفه وسلوكياته المعيشية اختلفت، إلى آخر الحيثيات المطروحة، وأؤكد بدوري عليها بـ "نعم" أكبر من أي حيثية يستهدف قائلها وضعها كحجر للتبرير! وأنّ المراد من الأسئلة أعلاه هو "معرفة" الكيفية التي أُديرتْ بها الأمور من قبل الجهات المختصة بكل شأن من المجالات أعلاه؟ فكما أنّ الظروف والسلوكيات والمتغيرات تغيّرت، فحجم الموارد المالية والإمكانات المتاحة أيضاً تغيّر بصورة أكبر وأسرع من وتيرة تلك "الحيثيات" مجتمعة! أمر آخر يعني تحديداً "الأصوات" التي قد تضع المئات من التبريرات، وتحاول أنْ تجدّف بالنقاش هنا إلى ما لا علاقة له بالقضية الرئيسة للمقال؛ في رأيي أنّه كلما زاد عدد التبريرات المقدّمة، فهذا يعني أنّ إجابات الأسئلة أعلاه تعني وجود تباين كبير بين مؤشراتها المقارنة بين بداية العقد الزمني ونهايته! وأنّها تعكس فعلاً أداءً غير مرضٍ على الإطلاق، وأنّها لو كانتْ في مجملها قد أظهرتْ تحسّناً ملموساً وظاهراً للعيان، لما وجدت مبرراً واحداً يحاول درء أي وجه من أوجه التقصير وسوء الإدارة. كما أنّ لنبش أعماق الفكرة أسئلة "مفتاحية"، فإن للإجابة عنها أيضاً أسئلة "مفتاحية". بناءً عليه؛ هل جرّبَ القارئ الكريم المقارنة بين أهداف وسياسات وبرامج خطط التنمية التسع الماضية (التي تغطّي زمناً يبلغ 45 عاماً)؟ وهل وجد اختلافاً يُذكر فيها؟ هل تمّتْ مراجعة ومقارنةً النتائج الفعلية لتلك الخطط والسياسات مع ما تضمنته؟ لسان حال وزارة الاقتصاد والتخطيط عبر إصدارها تقريرها السنوي "منجزات خطط التنمية" يقول غير ذلك! وهي مشكلة معقدة جداً، إذا كانت تنظر إلى تأخّر تلك السياسات والبرامج، على أنّ مخرجاتها تعد "منجزات" على الرغم مما أظهرته مؤشرات الأداء الاقتصادي والإنمائي من تأخّر كبير طوال العقود الأربعة الماضية، دعْ عنك العقد الأخير الذي شهد تفاقماً لافتاً لتأخّرها الكبير. واقع الحالة الاقتصادية والإنمائية الراهنة، يؤكد أنّ المشكلة الأزلية لأي اقتصاد المتمثلة في "ندرة الموارد" لم يعانها اقتصادنا الوطني بأي حال من الأحوال، خاصةً خلال العقد الزمني الأخير. ويؤكد أيضاً أن تفاقم التحديات والأزمات الاقتصادية والإنمائية لم يصل إلى هذه الدرجة من التأخّر كما وصل إليه في وقتنا الراهن. وعليه فلا يمكن أن يتجاهل المرء الرشيد ذو الإلمام البسيط بعلم الاقتصاد والمال، أنّ مصدر المشكلة نابعٌ من "سوء الإدارة والتدبير" بتلك الموارد المالية الهائلة، وجهْل التصرّف بها وفق المتطلبات والمتغيرات الاقتصادية عبر الزمن! فما بالك وهذه القائمة من الاختلالات جاثمة كواقعٍ مدوّن على أوراق خبراء ومختصّين في أروقة الاقتصاد والتخطيط؟! وللحديث صلة، حتى يفتح الله علينا ببصيرةً تنفع بثمارها البلاد والعباد.
إنشرها