Author

كيف تُنفق الميزانية العامّة؟

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
يمكن القول إن الاقتصاد الوطني مرَّ بطفرتين ماليتين متباعدتين زمنياً، الطفرة الأولى حدثتْ خلال الفترة 1974-1982، أمّا الطفرة الثانية فلا يزال الاقتصاد الوطني يمرُّ بها حتى تاريخه (2003-2013). قبل أنْ أتوسّع في كيفية إنفاق الميزانية خلال الفترة الراهنة، أرى أنّه من الضرورة المقارنة بين الفترتين، ومن ثم الحديث عن آثار آلية أو كيفية الإنفاق خلال الفترة الراهنة، كونها الأهم بالنسبة لنا الآن ومستقبلاً. سيتم الاعتماد في المقارنة بين الفترتين على توحيد وحدة القياس (بعشرة ريالات)، كي تُستوعب الفكرة جيداً لدى القارئ الكريم، ودعمها كذلك بالنسب المئوية لمزيد من الإيضاح. ذلك أنّ الفترتين تتفاوتان بصورةٍ كبيرة على مستوى الإيرادات والمصروفات، وحتى طول الفترة الزمنية. توزّعتْ كل عشرة ريالات من الإيرادات الحكومية خلال الفترة الأولى 1974-1982 على النحو الآتي: 4.1 ريال كمصروفات جارية، و4.2 ريال كمصروفات رأسمالية، و1.6 ريال كتكوين للاحتياطيات الخارجية (41.3 في المائة مصروفات جارية، 42.2 في المائة مصروفات رأسمالية، 16.5 في المائة تكوين احتياطيات خارجية). أمّا بالنسبة للفترة الثانية (2003-2013) فقد توزّعت كل عشرة ريالات من الإيرادات الحكومية على النحو الآتي: 5.3 ريال كمصروفات جارية، و2.0 ريال كمصروفات رأسمالية، و1.9 ريال كتكوين للاحتياطيات الخارجية، ويُضاف هنا 0.8 ريال كسداد للدين الحكومي العام (53.1 في المائة مصروفات جارية، 20.0 في المائة مصروفات رأسمالية، 18.6 في المائة تكوين احتياطيات خارجية، 8.4 في المائة سداد للدين الحكومي العام). بمقارنةٍ سريعة بين التوزيعين؛ يتبيّن ارتفاع حصّة المصروفات الجارية من إجمالي الإيرادات بنحو 28.5 في المائة، وانخفاضها بالنسبة للمصروفات الرأسمالية بنحو -52.8 في المائة، نتج عنه انخفاض في حصّة إجمالي المصروفات من إجمالي الإيرادات بنحو -12.6 في المائة، في المقابل ارتفعتْ حصّة تكوين الاحتياطيات الخارجية بنحو 12.8 في المائة. لفتاً للانتباه فيما يختص بالإيرادات الحكومية؛ فقد ارتفعتْ نسبة الإيرادات النفطية إلى الإجمالي من 87.9 في المائة عن الفترة الأولى إلى 98.3 في المائة خلال الفترة الثانية، مقابل انخفاض نسبة الإيرادات الأخرى من 12.1 في المائة للفترة الأولى إلى 10.7 في المائة للفترة الثانية. ماذا كل هذا؟ من أبرز نتائج تلك المقارنة، أنّ: (1) اعتماد الميزانية العامّة على الإيرادات النفطية قد زاد، وأنّه على الرغم من توسّع القطاع الخاص طوال العقودٍ الثلاثة الماضية، وزيادة مساهمته في الاقتصاد الوطني، تؤكّد البيانات أنّه لم ينجح في زيادة مساهمته في الإيرادات العامّة للحكومة، ما يؤكّد بدوره -وهو الأهم بكل تأكيد- أنّ الاقتصاد الوطني لا يزال خاضعاً بصورةٍ كبيرة جداً لحالة التعافي أو الاعتلال التي تمرُّ بها الميزانية العامّة، والميزانية العامّة بدورها لا تزال خاضعةً بصورةٍ أكبر لحالة أسعار النفط العالمية. (2) أنّه مقابل زيادة الاعتماد على عوائد النفط، زادتْ حصّة المصروفات الجارية (تتمثل أغلبها في رواتب موظفي القطاع الحكومي، مصروفات الصيانة والتشغيل)، أتتْ على حساب الإنفاق الرأسمالي، الذي على الرغم من ارتفاع قيمه المطلقة، إلا أنّ حصّته النسبية من إجمالي الإيرادات انخفضتْ بنسبةٍ كبيرة كما هو مبيّنٌ أعلاه. النتيجة الأبرز لكل هذه التطورات؛ أنّ مخاطر الاعتماد الكبير على عوائد النفط زادتْ وستزيد مستقبلاً مع أي احتمالات لتراجع أسعار النفط، خاصةً مع انخفاض مرونة المصروفات الجارية لطبيعتها المشار إليها أعلاه، وهو سيزيد بصورةٍ تدعو للقلق في المستقبل القريب والمتوسّط تجاه خيارات تمويل تلك المصروفات إنْ تراجعتْ أسعار النفط، وكيف أنّها قد تمتد إلى الضغط على الإنفاق الرأسمالي (الأهم بالنسبة للاقتصاد الوطني)، وامتداد مخاطره -إنْ استمرّت أسعار النفط في الانخفاض لفترة طويلة- إلى استنفاد أرصدة الاحتياطيات الخارجية ذات العوائد المتدنية، وقد تضطر الميزانية العامّة تحت تلك الظروف إلى الاقتراض الداخلي، والعودة مرة أخرى إلى نفق مزاحمة القطاع الخاص على الائتمان المحلي. تظل تلك الاحتمالات بعيدة في ظل الأوضاع الراهنة، ولكنّها قابلة للتحقق في أي مرحلة قد تتراجع فيها أسعار النفط، ولو أنّ درجة التقدّم على طريق تنويع القاعدة الإنتاجية وصل إلى مرحلة إنجازٍ حقيقية، تدعو عملياً إلى الثقة في منجزها لما حضر إلينا هذا القلق والخوف. (3) تكشف المقارنة الدقيقة هنا بين التغيرات النسبية لحصص الإنفاق الرأسمالي وتكوين الاحتياطيات الخارجية، عن سوء تقديرٍ من القائمين على تنفيذ السياسات المالية والاستثمارية؛ فعلى الرغم من زيادة احتياجات الاقتصاد الوطني بصورةٍ أكبر مما سبق إلى توسيع قاعدته الإنتاجية وتنويعها، إلا أنّ ما يجري على أرض الواقع -رغم كل ما أعلنت عنه تلك الجهات الاقتصادية من جهودٍ في هذا الاتجاه- لم يكن كافياً لتحقيق حتى الحدود الدنيا من ذلك الهدف (تنويع قاعدة الإنتاج)، فها هي الأرقام تؤكّد أنّ الاقتصاد الوطني والميزانية العامّة قد زاد اعتمادهما بصورةٍ أكبر من السابق على عوائد النفط! إنّه يُفسّر بدرجةٍ كبيرة الكثير من تشوهات الاقتصاد الراهنة، لعل من أبرزها هنا: أولاً- ضعف قدرة الاقتصاد (القطاع الخاص تحديداً) على توفير الفرص الوظيفية اللائقة من حيث الإنتاجية والدخل. ثانياً- زيادة اعتماد الاقتصاد على الواردات السلعية من الخارج، كون القطاع الخاص الذي يُعول عليه، اكتفى بالتركّز بأكثر من تسعة أعشار رؤوس أمواله عند "الاستيراد بالجملة من الخارج، والبيع بالتجزئة في الداخل" و"التزاحم عند نافذة المناقصات الحكومية"، وعلى ما تضمنته تلك النمطية من نشاط القطاع الخاص من عللٍ عديدة: زيادة استقدام العمالة غير الماهرة، تأخّر أو تعثّر تنفيذ مناقصات المشروعات الحكومية، فإنّ مؤدى كل ذلك يعني مستقبلاً أنّ الآثار السلبية لأي احتمالات لتراجع أسعار النفط، قد تكون خارج تصور تقديراتنا الراهنة! تؤكّد الحقائق أعلاه على أهمية ما سبق الحديث حوله مراراً وتكراراً، أنْ يتم البدء على وجه السرعة بتحديث وتطوير نسيج السياسات الاقتصادية الراهنة، وأنّها تقف خلف أغلب التشوهات التي يعانيها اقتصادنا الوطني. يسبق تلك الخطوة المهمة؛ الضرورة القصوى بأن تتم خطوة التحديث تلك تحت مظلة "رؤية شاملة للاقتصاد الوطني"، وأنْ تُحمى لاحقاً بآلياتٍ أكثر فاعلية ونفاذية على مستوى الرقابة والمحاسبة. وللحديث بقية..
إنشرها