Author

البنك الدولي «الثوري»

|
كاتب اقتصادي [email protected]
«لا تدع اللص يدخل بيتك ثلاث مرات. المرة الأولى تكفي. المرة الثانية فرصة. المرة الثالثة.. أنت غبي» سي. جويبيل. سي - أديبة ومؤلفة أمريكية خرج البنك الدولي عن صمته.. بل عن ''أدبياته''، وعن سلوكيات وضعها لنفسه منذ تأسيسه، التي يمكن اختصارها بعنوان عريض ''النأي بالنفس عن فداحة ما يجري في الدول النامية''، وبعنوان فرعي ''لا دخل لنا بالفساد هناك''، وبعنوان فرعي آخر ''السياسة لا تخصنا''! وحول هذا الأخير، يحق لنا أن نطرح السؤال البديهي، هل الفساد سياسة.. أم ''بلطجة''؟ وسؤال آخر، هل هو شأن داخلي.. أم مسؤولية دولية؟ أسئلة كثيرة ''اندهاشية'' الوقع، يمكن أن تُطرح في هذا الشأن، ولا سيما أن الجهة التي ينبغي أن تجيب عليها، تحمل الصفة الدولية، وُجِدت أساساً للتعاطي بالشؤون الداخلية وبالأخص المعيشية منها، في الدول المستفيدة من هذه الجهة، أو تلك المؤهلة للاستفادة. لكن ''الثورة'' التي فجرها البنك الدولي قبل أيام، تعفيه من الإجابة عن هذه الأسئلة، إلا إذا أردنا أن نضعها في سياق المحاسبة التاريخية له. خرج البنك الدولي من المحظورات التي يشكل الفساد عمادها الأساسي، ليعلن رئيسه جيم يونج كيم، أن ''الفساد على المستويين العام والخاص، هو محنة الدول النامية''. وزاد كيم من وتيرة ''ثورية'' الإعلان، ليقول ''إن الفساد هو العدو رقم واحد في هذه الدول''. ومضى خطوة أخرى واضحة ومحددة، بل وقاطعة بقوله: ''كل دولار يضعه مسؤول فاسد أو شخص فاسد بقطاع الأعمال في جيبه، هو دولار سُرق من امرأة حامل تحتاج إلى رعاية صحية''. ويمكننا نحن أن نقول أيضاً، هو دولار نُهب من طفل يحتاج إلى لقاح، وأسرة يعوزها الخبز، وطالب لا يملك كتاباً، وتلميذ بلا قلم رصاص، ورجل لا يعود إلى أسرته قبل أن تنام، هرباً من نظرات الحرمان. نستطيع سرد شرائح لا تنتهي من المنهوبين. والقضية برمتها، أن مؤسسة مثل البنك الدولي تأسست عام 1946، ضمنت الفساد في الدول الفقيرة إلى قائمة المحظورات التي لا تتحدث عنها، في حين أثبتت كل التجارب العالمية، أن التشهير بحد ذاته بمنزلة سلاح أمضى من غالبية الأسلحة. وسط هذا المشهد المريع، يستحق رئيس البنك الدولي الشكر، ليس لأنه ''اعتدى'' على المحظورات، بل لإقدامه على خطوة جريئة، وإن كانت متأخرة، عندما أنشئ في أكتوبر الماضي إدارة الحوكمة في البنك، وهي جهة تقدم المشورة الفنية اللازمة للدول الفقيرة المستفيدة من قروض ومشاريع البنك الدولي، بما في ذلك ''قطاع'' الفساد في هذه الدول، إلى جانب ''طبعاً'' قضايا تخص الزراعة والتجارة والمياه والتعليم والصحة وغيرها. وفي المقابل يستحق رؤساء البنك السابقين المُساءلة، على عدم ''ثوريتهم''، أو على الأقل، على قبولهم لتوجيهات حكومات الدول الكبرى، بعدم الاقتراب من منطقة الفساد في الدول النامية. فهذه الحكومات تلعب السياسة حتى في الساحات التي لا تمثل حاضناً طبيعياً لها. وأبشع أنواع السياسة، هي تلك التي تُمارَس في ''ساحة'' اللقمة، وشظف العيش، وموارد الأسرة، ودواء امرأة حامل. عندما كان المعارضون للأنظمة الفاسدة يعرضون الوثائق والأدلة التي تثبت الفساد، كانت حكومات الدول الكبرى المؤثرة، لا تقرأ الوثائق ''ليست بحاجة إليها لأن لديها النسخ الأصلية!''، ولكنها كانت تصدر وثائق اللجوء للمعارضين! وهي بذلك تُظهر الجانب الإنساني بغرض الاستهلاك العام، وفي الوقت نفسه تُبقي المحظورات في ثباتها وحصونها. واشنطن، لندن، باريس.. وغيرها عواصم تملك الحقيقة، غير أنها لم ترغب في أن تظهر على السطح. فلم يكن غريباً على البنك وصندوق النقد الدوليين وغيرهما من المؤسسات المالية الإقليمية والعالمية، أن تلتزم بـ ''محظورات'' الدول التي تشرف وتمول هذه المؤسسات، وتضع السياسات التشغيلية والتنفيذية لها. كانت أموال الفساد والنهب تتدفق على الكثير من دول العالم، بما في ذلك الدول الكبرى نفسها. لقد تغير الوضع الآن. ها هو البنك الدولي ''يثور''، وها هي الدول الكبرى نفسها، ماضية في ملاحقة الأموال القذرة، وإن كان الدافع الرئيس لها، الأزمة الاقتصادية العالمية، بدلاً من أن يكون الدافع أخلاقياً! أموال الفساد لا تدخل فيها أموال النهب والجريمة المنظمة. وكل نوع حقير من هذه الأموال، يشكل اقتصاداً عالمياً في حد ذاته! فعلى سبيل المثال يصل الناتج السنوي من أموال الفساد إلى أكثر من 40 مليار دولار سنوياً، وهي جزء من المجموع الكلي للأموال القذرة التي قدرتها منظمة النزاهة الدولية أخيرا بـ 946.7 مليار دولار في عام 2011 وحده، بعد أن ارتفعت بمعدل 13,7 في المائة عن حجمها في عام 2010! والـ 40 مليار دولار الفاسدة، هي في الواقع عوائد الرشا فقط، إلى جانب بعض الأعمال الاحتيالية الأخرى. لقد أقدم البنك الدولي على الخطوة الضرورية، وعليه أن يحافظ على ''ثوريته'' وأن يحاول القائمون عليه ''مقاومة'' أي ضغوط قد تأتي من بعض الحكومات الغربية لاعتبارات سياسية. هذا البنك لا يشتغل أصلاً بالسياسة. وإذا كانت التشهير يفيد في حالة الأنظمة الفاسدة في الدول الفقيرة، فإنه يفيد أيضاً على صعيد حكومات الدول الكبرى، حتى وإن كلف الأمر منصباً وظيفياً هنا أو هناك.
إنشرها