Author

ميزانية لصنع تاريخ اقتصادي حي

|
ربما اعتاد المواطن السعودي منذ نحو أكثر من عقد على سماع: إنها ميزانية تاريخية، لكن تلك هي الحقيقة .. بل إن هذه الميزانية تاريخية بكل المقاييس، الميزانية العامة للمملكة، وستحتفظ بهذا التوصيف لأجل بعيد، ليس فقط من حيث حجمها، لكن أيضاً من جهة توزيعها وتوزعها، والحسابات المستقبلية المرتبطة بها، إلى جانب (طبعاً) قيمة الدين العام فيها، الذي بلغ حدوده الدنيا. وهي تأتي ضمن حراك اقتصادي سعودي تاريخي أيضاً، يشكل مشهداً لا يشبه أياً من المشاهد السابقة. لقد استفادت المملكة بلا شك، من التطورات التي فرضتها الظروف الراهنة في المنطقة والعالم، وأضاف عائد هذه التطورات المزيد من المدد المالي إليها. ولأسباب كثيرة، تسهم هذه الميزانية في صناعة تاريخ اقتصادي سعودي، بمعايير ومفاهيم جديدة، لا علاقة لها بتلك التي كانت سائدة في العقود الماضية. فالاستحقاقات فرضت نفسها على الواقع، وصانع القرار الاقتصادي لم يعاندها، بل قام بما ينبغي القيام به، ولا سيما عن طريق تهيئة الظروف، وتوفير الإمدادات اللازمة لها. رغم المصروفات التي فرضت نفسها بالفعل في ميزانية عام 2013، بحيث زادت على ما كان مخططا لها، فإن الفائض في الميزانية كان كبيراً. وهو يشكل في النهاية رصيداً مالياً استراتيجياً، خصوصاً في ظل مشاريع تنموية كبرى، لا تتطلب الإنفاق فحسب، بل الجاهزية للإنفاق. فلهذه المشاريع حساباتها الواضحة والطارئة في آن معاً. وعلى هذا الأساس، يضيف الفائض البالغ 206 مليارات ريال، مزيداً من الأمان المالي في المستقبل المنظور. ليس مهماً في هذه الحالة، الفارق في المصروفات بين ما خُطط في ميزانية عام 2013، وبين ما أنفق بالفعل. مشروع هائل وعظيم مثل توسعة المسجد النبوي، له تشعباته الكثيرة، وله أيضاً "مفاجآته" الواقعية. ولم يحدث أن تمكنت حكومة في العالم من إحداث تناغم محكم بين مخططات الموازنة والإنفاق العام .. ومع ذلك فليس بخاف الإنفاق على قطاعي التعليم والصحة بما يشكل 25 في المائة إلى نحو 12 في المائة على التوالي، ما يشير إلى تكريس مكثف للتنمية البشرية كعماد تراهن عليه المملكة في بناء الدخل الوطني على الإنتاج وليس على موارد النفط. أما الخفض الضئيل في نسبة الزيادة للإنفاق في ميزانية 2014 فله أيضاً ما يبرره. فقد تمت تغطية أغلبية المشاريع التي أُقرت في المملكة في الأعوام السابقة، من الفوائض في تلك الأعوام، يضاف إلى ذلك، أن عمليات نزع الملكية التي أضافت مصروفات بلغت 107 مليارات ريال في ميزانية عام 2013، اقتربت من نهايتها، وأصبحت "المفاجآت" المحتملة في هذا المجال، أقل من محورية في عملية الإنفاق. ولا شك في أن حجم الإنفاق في الميزانية الجديدة، يدخل أيضاً فيما يمكن وصفه بـ "التدبير" المطلوب في منطقة تشهد تغيرات دراماتيكية، وعالم متغير لا يزال في مرحلة التشكيل الجديد. ورغم السيطرة عليه، إلا أن هناك محاور تظل خارج السيطرة. وكل هذه المتغيرات تؤثر بصورة مباشرة في الأداء الاقتصادي للمملكة وغيرها من دول، ولا سيما تلك التي تلعب دوراً محورياً إقليمياً ودولياً. لقد تم الأخذ في الاعتبار، إمكانية تراجع العوائد النفطية في العام المقبل، لأسباب كثيرة، في مقدمتها احتمال عودة إيران إلى السوق بزخم كبير، وتعاظم الإنتاج العراقي. دون أن ننسى المشكلة داخل المملكة نفسها، المتمثلة في ارتفاع كبير في الاستهلاك المحلي للنفط بشكل خاص، والطاقة بشكل عام. وعلى هذا الأساس، كان ضرورياً لهذا المستوى من الإنفاق في العام المقبل. لا شك في أن هذه الميزانية التاريخية ترسم معالم الحراك الاقتصادي للمملكة بشكل عام في السنوات القليلة المقبلة. فالروابط الاقتصادية لا تنقطع بتغير الأعوام، وتبعات مرحلة تنتقل بصورة طبيعية إلى المرحلة التي تليها. والحذر مطلوب في أوقات الاستقرار العالمي، فكيف الحال في زمن يتشكل فيها الاقتصاد العالمي بأسوأ حالة من الاضطراب؟!
إنشرها