Author

سلِّموني لله

|
.. من أعظم مشاهد الكون العظيم تأثيرا مشهد "النجم المستعرّ" في انفجاره الخلاّق، فيبدو من بلايين السنين البعيدة ضوءاً ساطعاً دائما، وكأن لحظة الموت خالدة خلود الكون. ينفجر النجمُ العملاق وهو يصنع الفحم والآزوت والأوكسجين والألمنيوم، مكونات الكواكب التي ستبقى من بعد رحيله لامعاتٍ سابحاتٍ في مداراتٍ رُسمت في تصميم الخالق الأعظم سبحانه، حتى ينتج النجمُ الحديدَ، العنصر الأكثر فائدةً في معيشتنا اليوم، لينفجر بسبب ما أنتج. يذهب المنتجُ ويبقى المُنتَجُ. صاحبنا كان يسمي نفسه في حسابه بالتوِتر "النجم المستعرّ" رحمه الله تعالى وأسكنه أعالي جنانه مع الصالحين المصطفين الأبرار. كالنجم العظيم تسلمه الله تعالى ــــ تماما كما أراد ــــ بعد أن قدم أعظم نتاجه وخدماته للقطاع الصحي. يبكيه كل من عرفه، وكل من في مستشفى الشميسي العام بالرياض.. ستفقده الغرفُ والجدران، حيث كان يقضي الوقت ملازماً مرضاه متعدياً يومَه المسجّل رسميا، ليبقى أوقاتا إضافيةً تُسجَّل له في السماء. صاحبنا سأله أخوه بندر: "أخي سلطان، ألم يتعبكَ طلبُ العلم بلا توقف؟!" فيرد عليه سلطان ــــ رحمه الله ــــ بعفوية الناذرين أنفسهم لله ثم للقيام على خدمة عباده: "يا أخي، يا حبيبي، إن طموحي لا يسعه عمري". وبالفعل كان الدكتور "سلطان بن بدر بن هايف الفغم"، شابا نشطا تتجاوب أنوارٌ في عقله من مشاعل براقة من الذكاء، وفي وجدانهِ إيمانٌ راسخ، وثقة لا تعرف التردد، ويأكل قلبَه حبُّ العلم وخدمة مرضاه.. حتى أكل القلبَ ذاك العملُ والحبُّ، وأكل القلبُ صاحبَه، بما قدّره اللهُ تعالى في اللوحٍ المحفوظ. لما تحدثت مع أخي الأعز الدكتور "نواف بن بداح الفغم" عضو مجلس الشورى، كان متأثرا فوق العادة، ويقول: "إنه أخي، ابن عمي، وفقدانه منزوعٌ من قلبي ومن مهجتي، ويتضاعف حزني لأنه كان يقدم خدماتٍ فوق طاقة أي طبيب.. فحزنتُ من أجل مرضاه". ولكني أعرف ذاك الشاب. والدكتور نواف يحادثني ظهرت غيمةٌ نائية ومضيئة في ذاكرتي في أحد المؤتمرات الطبية، أو هي حملة تطوعية صحية كبيرة حين تقدم لي شابٌ صبيح الوجه، وقال لي: "أعرفك بنفسي د. سلطان الفغم، وبودي أن أشرح عن تحدياتٍ تجاوزتها كشابٍ سعودي اخترتها لنفسي، وأريد منك أن تُفهم الشبابَ أن لا مستحيل علينا بعد توفيق الله". وغاب في الذاكرة إلا من نورٍ يلمعُ بين وهجةِ أملٍ وأخرى.. ولما عرفتُ أنه توفَّى من أخيه وابن عمه الدكتور نواف غامت الدموعُ مع بزوغ الذكرى لوجهٍ وضّاحٍ كان يقول: "الشباب عليهم أن يؤمنوا بأن لاّ مستحيل!". كان للدكتور سلطان لو أراد أن يتبوأ أعلى الأماكن وأريح الوظائف في أفخم المستشفيات لعبقريته الفذة التي كانت حديثا يدور في أوساط تخصصه، كما كانت شهرة والده كافية أن تفعل ذلك، ولكن هو طبع النجوم، تستقلّ ومعها شممها وطموحها ونورها تقود حياةً متوهجةً حتى .. الموت. من دلائل طموح تلك النفس التواقة للدكتور سلطان أنه تخرج طبيبا للأسنان في جامعة الملك سعود، وعمل في مستشفى الشميسي الذي بقي فيه يجول أرجاءه، ويطبب مرضاه ويعلم أجيالا كي يلحقوه. ثم عزم أن يكون جراحا متقدما في عمليات الفك بكامل الوجه، وهو تخصص أرقاه في جامعةٍ بألمانيا، إلا أن الألمان طلبوا منه تعلم اللغة الألمانية ثم إعادة كامل دراسة البكالوريوس ــــ تصوروا! سلطان لم يتردد لحظة، وأكمل ذاك التحدي بروح المحاربين الشجعان في ساحات العلم. قال الدكتور سلطان لزوجته الطبيبة النابهة ندى البصيلي: "حين أموت، لا أريد أن أكون تحت الأجهزة، دعيهم يقطعونها عني.. ليتسلمني الله". وتسلمه الله، إن شاء الله، راضياً مرضيّا. كان مولعا بالفلك ومواقع النجوم وأسرار الكون، فكتب آخر تغريدة في حسابه تهزّ الرواسخَ التي تشد الجبالَ: "سوف أغرّد بعد ربع سنةٍ ضوئيةٍ، والبقاء لله وحده جلّ في علاه. التعازي تقبل في إحدى أذرع مجرّة دربِ التبّانة، شارع السديم العظيم، حي الجوزاء". آهٍ يا قلب. لهفي على كوكبٍ حلَّ الثرى وعلى بدرٍ تبوَّأَ، بعدَ الأبراجٍ، الرُّجُما. كان سلطان كوكبا نزل من ثريّاه ليتوسد الثرى، كان بين بروج السماءِ باهراً، وتسند في قبره يحمل ذاك الإبهار. والله ستُفقَد يا سلطان.. ولكن إنتاجك سيبقى، يذهبُ المُنتِجُ ويبقى المنتَج!
إنشرها