Author

حماية المال العام من الفساد

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
يُتوقع أنْ تُسفر الميزانية العامّة للعام المالي الجاري عنْ فائضٍ هو الثاني والعشرين في تاريخ الميزانية الحكومية منذ 1969، يراوح بين 225 و240 مليار ريال (نحو 8.9 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي)، وأنْ تبلغ الإيرادات الإجمالية أكثر من 1.2 تريليون ريال، وهو مستوى مقارب لمستواها المسجّل في العام المالي السابق، وأن ترتفع المصروفات الإجمالية لأكثر من 975.2 مليار ريال، مسجّلةً نسبة ارتفاع 11.7 في المائة مقارنة بالعام السابق. كما يُتوقع أنْ يسهم ذلك الفائض في خفْض مستوى الدين الحكومي لما دون 92.0 مليار ريال (نحو 3.4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي)، الذي يُعد من أدنى معدلات مديونية الحكومات في العالم إنْ لم تكن الأدنى. دعم التراكم الإيجابي لتلك الفوائض طوال 11 سنة الماضية (باستثناء العجز الطارئ في عام 2009 بنحو 86.6 مليار ريال) كثيراً، وحسّن من فرصها وإمكاناتها على مختلف المستويات، لعل من أبرزها: (1) تمكين المالية العامّة من إطفاء 86.6 في المائة من الدين الحكومي العام، وخفْضه من أعلى مستوياته المسجّلة في عام 2002 عند 685.2 مليار ريال (97.9 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي) إلى المستوى المشار إليه أعلاه، أيّ سداد ما يقارب 593.2 مليار ريال. استمرّت مؤشرات التحسّن في هذا الجانب عبر الفترة الماضية، ورسّختْ المالية العامّة على أرضية صلبة، تمثلتْ في وقوفها اليوم على رصيد تاريخي من الاحتياطيات، يُقدّر أنْ تناهز قيمته على نهاية العام المالي نحو 2.8 تريليون ريال. (2) كما أتاحتْ تلك الفوائض المالية القياسية، فرصاً واسعة جداً لتوسع الإنفاق على مشروعات تنموية جديدة، تركّزت على دعم وتطوير البنية التحتية للاقتصاد الوطني، ووسعتْ بدورها من القدرة الاستيعابية للاقتصاد، وزادتْ من قدراته الإنتاجية، بصورة يؤمل تعزيزها لخلق فرص استثمار محلية أفضل في الوقت الراهن ومستقبلاً، ما سيسهم في جذب المدخرات الوطنية لتأسيس المزيد من المشروعات المتعلقة بالإسكان والطرق والمطارات والسدود، والعديد من متطلبات التنمية المستدامة والشاملة للبلاد، وبدا ذلك واضحاً من اندفاع المالية العامّة نحو مضاعفة إنفاقها الرأسمالي. كما منحتْ تلك المزايا فرصاً غير مسبوقة، نتج عنها تخصيص مبالغ مالية هائلة من الموازنات الحكومية للإنفاق عليها بسخاء، ووفقاً لما تم رصده خلال عقد مضى تقريباً (2003-2012) فقد وصلت قيمة هذه المخصصات على هذه المشروعات والبرامج لنحو 1.4 تريليون ريال، شكّلت في المتوسط نحو 26.3 في المائة من إجمالي مصروفات الفترة، أتتْ تلبيةً مثلى للاحتياجات التنموية لكلٍ من الاقتصاد والمجتمع. وهنا يجدر التركيز حول درجة التقدّم المتحققة عاماً بعد عام لتلك المشروعات والبرامج، إذْ إنّ مسؤوليتها ملقاة بالكامل على الأجهزة الحكومية المعنيّة، تشاركها المسؤولية منشآت القطاع الخاص الموكلة إليه مهام التنفيذ والتسليم. وبالنظر إلى مقاييس كفاءة الاستثمار للإنفاق الهائل على تلك المشروعات والبرامج التنموية خلال الفترة الماضية (مساهمتها في النمو الاقتصادي الحقيقي)؛ فعلى الرغم من ارتفاع حجم المخصصات المالية للإنفاق عليها، إلا أنّها أظهرتْ تراجعاً لافتا في معدلاتها، حيث سجّلت تراجعاً من أكثر من 27 في المائة في عام 2000 إلى ما دون 11 في المائة بنهاية العام الماضي. إنّ هذا التباين اللافت بين زيادة الإنفاق الرأسمالي الحكومي من جانب، وانخفاض كفاءته من جانب آخر، يستدعي من المخطط الاقتصادي التوقف طويلاً في هذه المفارقة المقلقة دون شكّ، والبحث سريعاً في العوامل المتسببة بحدوثه، ومحاولة وضع الحلول العاجلة له، التي إنْ أُهملتْ فإنها ستترك خلفها آثاراً سلبية قد تتطلب لعلاجها وحلّها أضعاف ما تم إنفاقه خلال العقد الماضي. تتسم آلية لمتابعة ومراقبة مستوى إنجاز المشروعات والبرامج بالأهمية القصوى، كونها مرتبطة بمستويات التنمية المستهدفة لتلبية احتياجات المجتمع والوطن. ولكيلا تتعطل تلك المشروعات البالغة الأهمية، ولأجل تحقيق الإنجاز المأمول من جميع الأجهزة الحكومية وشركائها من منشآت القطاع الخاص. تقتضي تلك الآلية؛ مراجعة وفحص كامل السياسات الاقتصادية الكلية للاقتصاد الوطني، ومعالجة الثغرات المحتمل وجودها، فكما تُشير مؤشرات القياس أعلاه فإنّ جزءاً كبيراً من الأسباب مترسبٌ في صلب تلك السياسات والبرامج الاقتصادية. أخيراً ترتقي أهمية الإسراع بتطبيق تلك الآلية والإجراءات التابعة، إلى دورها المأمول تجاه منع تلك المشروعات الحيوية من أية احتمالات بتغلغل الفساد الإداري والمالي فيها، وهو ما سيحوّلها عن مسارها الأساسي الذي من أجله أُقرّتْ، والذي سيُفضي تفاقمه بكل تأكيد إلى نتائج كوارثية لن تُحمد عقباها، وهو شهدته بعض المدن الرئيسة والمناطق الحضريّة في وقت سابق قريب، كشفتْ عن تورّط بعض الأجهزة الحكومية ومنشآت القطاع الخاص في قضايا فساد مالية وإدارية فادحة، نتج ما نتج عنها من خسائر مادية وبشرية فادحة جداً، ما يؤكد أهمية المطالبة إزاءها بضرورة إخضاعها بالكامل دون استثناء لأعلى درجات الرقابة والمتابعة والشفافية، إضافةً إلى اختبارات الالتزام بالمواصفات والمقاييس الموضوعة لتنفيذ تلك المشروعات والبرامج.
إنشرها