Author

ريال النفط.. بريال خارجياً أو بعشرة داخلياً

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
أكمل من حيث انتهيت في المقال السابق ''رفْع الإيرادات غير النفطية أمْ خفض المصروفات؟''، وتحديداً من الخيار الاستراتيجي البديل المستهدف رفْع مستوى الإيرادات الأخرى غير النفطيّة، الذي لا سبيل إلى تحقيقه إلا من خلال العمل الجاد والممنهج المنصب على تنويع قاعدة الإنتاج المحلية، التي بدورها ستكفل لنا تحقق الأهداف الرئيسة التالية: (1) زيادة الدخل والعوائد الاقتصادية. (2) زيادة المردود على الميزانية العامّة في جانب إيراداتها الأخرى النفطية ''الزكاة، الضرائب''. (3) زيادة فرص التوظيف والدخل أمام المواطنين. (4) التوظيف الأمثل للاحتياطيات والثروات الوطنية داخل الاقتصاد الوطني. (5) ترسيخ الاستقرار الاقتصادي، وتنويع مصادر نموّه. لكن، ما الآلية لأجل تحقيق تلك الأهداف المهمّة وغيرها من الأهداف ذات الأثر الإيجابي؟ الباب الوحيد لأجل النفاذ إلى تلك الباحة الجميلة، هو حُسن استغلال الإيرادات النفطيّة القياسية التي بيدينا اليوم! والدفع بها داخل أروقة الاقتصاد الوطني وفق رؤية شاملة ثاقبة، تعمل بدورها على إيجاد مشروعات متعددة الأغراض، تسهم في تحفيز وتنشيط بيئة الاستثمار المحلية، وتعزز من قدرته على الاستفادة من مزاياه التنافسيّة غير المستغلّة في المرحلة الراهنة كما يجب، تتقدّم عبر النافذتين الفرعيتين الرئيستين ''المشروعات العملاقة الممولة من الحكومة بمشاركة القطاع الخاص والتقنية المتقدّمة للاستثمار الأجنبي، والمشروعات المتوسطة والصغرى الممولة والمدعومة من الحكومة''، وتركيزهما على نشاطي الخدمات والصناعة، وفق احتياجات كل نشاط من النشاطين، حسب الإنتاجية والقيمة المضافة ودرجة التركّز والتوظيف، حيث يشكّل نشاط الخدمات حتى نهاية 2012 نحو 53.8 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، ويسهم بـ 45.7 في المائة من القيمة المضافة للاقتصاد، ويستحوذ على 67.4 في المائة من إجمالي العمالة، بنسبة سعودة بلغتْ 30.1 في المائة، تتركّز أغلب وظائف السعوديين في هذا النشاط في القطاع الحكومي، إذْ لا تتجاوز نسبة السعودة في هذا النشاط في القطاع الخاص 18.4 في المائة. أمّا بالنسبة لنشاط الصناعة، فبلغتْ نسبته من إجمالي الناتج المحلي بنهاية 2012 نحو 42.6 في المائة، ومساهمته في القيمة المضافة للاقتصاد 53.4 في المائة، ولم تتجاوز نسبة استحواذه من إجمالي العمالة على أكثر من 28.1 في المائة، وبنسبة سعودة أدنى لم تتجاوز 7.7 في المائة، جاءتْ أعلى بقليل في القطاع الخاص في النشاط بنحو 12.5 في المائة. قد لا يتخيّل القارئ الكريم، كم تحملُ الأرقام أعلاه من المضامين والدلالات البالغة الأهمية إلى أقصى الحدود، التي يتطلّب الغوص فيها إعداد دراسات مستفيضة لا مجرّد مقال يُكتب، يمكن من خلال نتائجها استخلاص توصياتٍ دقيقة، يتم توظيفها في سياق رسْم سياساتٍ وبرامج إنمائية أكثر ديناميكية، تكون بمثابة خريطة للطريق المفترض السير وفق إشاراتها، بما يبعدنا كثيراً عن السير بطريقة عشوائية، لم ولن نجني معها إلا مزيداً من الهدر الاقتصادي والمالي. إذاً؛ أمامنا نافذتان: (1) المشروعات العملاقة الممولة من الحكومة بمشاركة القطاع الخاص والتقنية المتقدّمة للاستثمار الأجنبي. (2) المشروعات المتوسطة والصغرى الممولة والمدعومة من الحكومة، يتوقّع أن تلعب دور المساندة للمشروعات العملاقة. تتطلّب النافذة الأولى نهجاً مختلفاً من السياسات والبرامج والإجراءات، تأخذ في عين الاعتبار: (1) تركّزها على المجالات التي يتمتّع فيها الاقتصاد الوطني بالميزة التنافسية. و(2) مجالات وصناعات إحلال الواردات، حسب الجدوى والإمكانات المتاحة؛ في مقدّمتها الموارد البشرية الوطنية. (3) ضخامة حجم رؤوس الأموال لتمويلها، سواءً عبر تمويلها المباشر في رأس المال، أو عبر إتاحة المجال أمامها للاستفادة من التمويل الهائل والمعطّل في سوق الدين ''سندات، صكوك''. (4) ضرورة بناء نماذج محكمة من الشراكات عالية الشفافية بين الحكومة والقطاع الخاص والشريك الأجنبي، تعزز من رفع كفاءة عوامل الإنتاج (رأس المال ''الحكومة''، العمل ''القطاع الخاص''، التقنية ''الاستثمار الأجنبي''). فيما تتطلّب النافذة الثانية ممثلةً في المشروعات المتوسطة والصغرى، جهوداً أوسع وأعمق بكثير مما هو قائمٌ اليوم! ولا أبالغ بالقول إنّ هذه النافذة تعرّضتْ في السابق لتهميش ونسيان كبير، وزاد العبء عليها أخيرا أنْ تلقّتْ أقوى الصدمات التي أدّتْ إلى إنهاء وجودها تماماً، نتيجة للعديد من السياسات ''التجارة، العمل، التمويل''. كما أؤكد أنّ التعامل معها وفقاً لتلك السياسات بحجّة أنّها كانتْ الموطن الأكبر للتستّر التجاري وغيرها من التهم، لم يكن موفقاً إلى حدٍّ بعيد! لهذا تتطلّب جهود دعْم هذا النوع من المشروعاتْ منهجية أخرى، لعل من أبرز عناوينها ما تم المطالبة به منذ أكثر من عقدٍ زمني مضى؛ أن تؤسس لأجلها ''هيئة حكومية مستقلة''، تتولى وضع خططها وبرامجها التي تربط أهداف إنشائها باحتياجات الاقتصاد الوطني، وتضعها على الطريق الصحيح الذي يؤهلها لتلعب الدور المساند للمشروعات العملاقة المذكورة أعلاه، وأنْ تكفل لها سهولة الحصول على التمويل اللازم ''لا تتجاوز حصتها من الائتمان المحلي نسبة 1 في المائة من الإجمالي''، ولستُ بصدد مقارنة وضعها المهترئ لدينا بمثيله في العديد من البلدان، ولا بصدد ذكْر أهمية وجودها كلاعب يعزز من تنوّع القاعدة الإنتاجية المحلية، ودورها في توفير الفرص الوظيفية الكبيرة أمام الباحثين عن العمل من المواطنين. خلاصة القول مما مضى، إنّ تدفقاً للثروات المعطّلة خارجياً إلى داخل الاقتصاد الوطني، وفقاً للنافذتين أعلاه، مؤداه تحقق فائدة أكبر لتلك الثروات لمصلحتنا، وتحقق الأهداف الرئيسة المبيّنة في مطلع المقال، لعل من أهمّها دورها المأمول في دعْم الإيرادات الأخرى غير النفطية، وتخفيفه الاعتماد على إيرادات النفط، بل يتجاوز هذا الهدف إلى تحقيق هدف حُسْن استخدام تلك العوائد، وتوظيفها في مصلحة الاقتصاد الوطني، بما يعزز من قدراته، ويوسّع طاقته الاستيعابية. ولعلّه من المفيد التذكير بالآثار الإيجابية التي تركها تأسيس مدينتي الجبيل وينبع وشركة سابك خلال الفترة 1975-1982 في الاقتصاد الوطني، حيث أنفقتْ الحكومة عليها وغيرها من المشروعات المهمة، التي تحوّلتْ اليوم إلى كيانات عملاقة لها وزنها الكبير محلياً وعالمياً، أؤكد أنّها أنفقت فقط خلال تلك المرحلة ما يعادل 54 في المائة من الإيرادات النفطية عليها، فيما لم يتجاوز الإنفاق في المرحلة الراهنة على مشروعات مشابهة أكثر من 24.2 في المائة! ولهذا حديثٌ آخر سيتم التفصيل فيه لاحقاً، ضمن هذه السلسلة من المقالات المتعلقة بالاقتصاد الوطني والميزانية ــــ بإذن الله.
إنشرها