Author

النفط والمياه التي تضاهي جريان النيل

|
لعل بعضنا يتذكر قصة المياه الجوفية تحت أرضنا الصحراوية، التي قالوا عنها، قبل أكثر من عقدين من الزمن، إنها تضاهي جريان نهر النيل العظيم من حيث الكمية لأكثر من 300 سنة، اللهم لا حسد. وإن الكثيرين من أفراد المجتمع في ذلك الوقت كانوا قد صدَّقوا تلك المقولة الشهيرة، على الرغم من ضخامة حجمها وغرابة صياغتها. لكن تبين فيما بعد أن الموضوع لا يعدو كونه نتاج تخمين غير موفق من قِبَل أفراد كان همهم ومرادهم فقط حب الظهور. وسرعان ما تحولت القصة إلى طرفة يتداولها المواطنون. وبالمناسبة، فالذي يشاهد استخدامنا للماء واستنزافنا الهائل لما بقي منه تحت أعماق الأرض، لا يشك مطلقًا في أننا نعيش فعلا على ضفاف نهر النيل الخالد. وإلا، فهل من المعقول أو من المنطق أن يكون استهلاك الفرد من الماء على أرضنا القاحلة أكثر من ضعفي المعدل العالمي، وأكبر حتى من استهلاك الشعوب التي تحيط بها الأنهار من كل جانب وتحفها البحيرات العذبة، وتلك الدول التي تسقط عليها الأمطار بكميات خيالية؟ والشاهد هنا، أننا - الله يحفظنا -، أمة تأخذ معظم الشائعات والمقولات والتخمينات على محمل الجد وتصدِّق الكثير منها دون تفكير أو تمحيص والتأكد من صحتها وسلامة مصادرها. فوسائل الإعلام المحلية والعالمية لا تفتأ تتحدث عن ضخامة حجم الثروات النفطية والمعدنية التي تملكها دول الخليج العربي وعن كميات مماثلة لها في الحجم لم تُكتشف بعد. وهو أمر مبالغ فيه إلى أبعد الحدود. ولا بأس في ذلك لو أننا كنا أمة تعي ما لها وما عليها وتحسب للمستقبل حساباته وتداعياته وتعمل جادة على تنويع مصادر الدخل، بحيث لا يظل اعتمادنا كاملاً على مصادر نفطية ناضبة. لكن الطمع أخذ منا كل مأخذ وتصورنا أننا سنعيش على هذه النعمة مدى الدهر. والواقع، كما نعرفه ويعرفه كل عاقل، غير ذلك تمامًا، فلا دوام إلا لوجه الله سبحانه وتعالى. وخير لنا أن نتدبر أمورنا بوعي وإدراك وألا ننقاد وراء الأوهام والشائعات عندما يتعلق الأمر بمصير وجودنا على أرض صحراوية نادرة الموارد. فإذا استنفدنا ثروتنا النفطية قبل أن يكون لنا مصدر دخل مستقل عنها فما الذي سيحدث لنا ولأجيالنا؟ ورب سائل يقول: من أين نبدأ وكيف نتصرف وقد انغمسنا إلى آذاننا في هذه الحياة المرفهة غير المنتِجة؟ والجواب ذو شقين. الأول أن علينا أن نعترف بخطورة استمرار وضعنا الحالي، في الوقت الذي أكبر همنا فيه تكاثر في النسل وتنافس في جمع المال، ما حلَّ منه وما ُحرِّم، ونحن نعيش على أرض غير ذي زرع. والآخر، أن نبدأ بأسهل طريق يؤدي إلى زعزعة أركان كبريائنا ومنبع نفورنا من العمل المنتِج. والطريق الأمثل في هذا الاتجاه هو إيقاف استقدام العمالة الأجنبية فورًا، إلا ما له علاقة بالحالات الإنسانية المؤقتة، مثل عاملات المنازل. وما عدا ذلك فلا يسمح لمن يغادر البلاد أن يحصل على تأشيرة العودة. ثم يصدر أمر يمنع منعًا باتًّا الحصول على تأشيرات استقدام لمهنة بائع، لأنها تفتح مجالاً واسعًا للتحايل ومنح المستقدَم حرية البيع والشراء لحسابه الخاص. وهذه أسوأ ممارسة يقوم بها الوافد تحت اسم البيع والشراء. ونحن ندرك تمامًا صعوبة، وربما استحالة، تنفيذ مثل هذه الإجراءات الضرورية في وقتنا الحاضر، في الوقت الذي نحن ننعم فيه بدخل يفيض كثيرًا عن حاجتنا. ولكن الأمر الواقع يتطلب منا الاستعداد لمستقبل تختلف ظروفه ومعطياته عن حاضرنا. فالدخل الكبير الذي تنعم به الآن دول الخليج ما هو إلا طُعْم لمرحلة قادمة من حياتنا على هضاب وسهول هذه الصحراء تتميز بالفقر وشح الموارد، في وقت تتزاحم فيه على ظهرها عشرات الملايين من البشر الذين يبحثون عن لقمة العيش وشربة ماء تطفئ نار عطشهم. والمقلق لنا هو محاولة وسائل الإعلام الغربي إثارة مشاعرنا بتخويفنا من نمو الإنتاج الأمريكي من النفط الصخري المكلِف الذي سيتغلب بزعمهم من حيث الكمية على مستوى إنتاجنا، وتصبح أمريكا أكبر منتِج للسوائل النفطية. ولا نعلم كيف حكموا علينا بأننا نفتخر بحجم إنتاجنا الذي يزيد كثيرًا على حاجة اقتصادنا. وكيف نفخر بسرعة استنزاف مصدر دخلنا الوحيد الذي سينقل حياتنا من العيش الرغيد إلى حياة ملؤها الفقر والفاقة والجوع والعطش وقلة ذات اليد؟ ولماذا لا يتصدى إعلامنا الخليجي، على قلة فاعليته، ليوضح لأولئك المتشمتين أننا أكثر منهم ترحيبًا وسعادة بنمو إنتاجهم النفطي الذي نأمل أن يخفف عن نفوطنا الضغوط المسلطة عليها من قِبَل الدول المستهلكة. ونحن لا نلومهم فذلك مبلغ علمهم. هم ترَبُّوا وترعرعوا على أن الحياة كلها استثمار وربح وخسارة. ومتى صار هناك مردود مجز على استثماراتك فعليك التوسع في مجال الاستثمار لينمو الربح ويتضاعف الدخل. فهم ظنوا أننا نلهث وراء زيادة الدخل حتى ولو كان على حساب مستقبل الأجيال التي ستعيش فوق هذه الصحراء. وإن كان هذا في الواقع هو ما يمارسه بعض المسؤولين في دولنا الخليجية، إلا أنها سياسة إنتاجية خاطئة ستؤدي بنا في نهاية المطاف إلى الهاوية. ولذلك فنحن لا نحبذ سياسة الإسراف، ويكفينا إسرافًا اعتمادنا الكلي على المداخيل النفطية، مع أن هذا هو أساس عدم قدرتنا على العمل الجاد والإنتاج الفردي المثمر والاعتماد في جميع شؤون حياتنا على العمالة الأجنبية التي تنمو نموًّا سريعًا في مجتمعاتنا الخليجية.
إنشرها