Author

الحد الأدنى للدخل

|
تتمتع سويسرا بنظام حكم ديمقراطي يعتبر الأكثر مباشرة في العالم، حيث يسمح لأي مواطن بطرح أي مبادرة للتصويت عليها من قبل جميع السكان، وذلك بشرط أن يتمكن من جمع أكثر من 100 ألف توقيع. ويتم تبني المبادرات وتحويلها إلى تشريعات إذا تم التصويت عليها وحصلت على موافقة ما لا يقل عن نصف إجمالي أصوات الناخبين، وحصلت كذلك على الأغلبية فيما لا يقل عن نصف مقاطعات ''كانتونات'' الاتحاد السويسري. وقد تم إقرار كثير من المبادرات والتي يتصف بعضها بالغرابة والاستهجان بعد طرحها من قبل بعض الأفراد، ومن أبرز تلك المبادرات مبادرة منع بناء المآذن في مساجد سويسرا. وتناقلت وسائل الإعلام أخيراً خبر طرح مبادرة سويسرية لوضع حد أدنى لدخل البالغين السويسريين ''حسب ما تذكره أغلب المصادر''، وحصلت المبادرة على دعم نحو 126 ألف شخص مما أهلها لكي تطرح للتصويت عليها من قبل عموم السكان. وتنص المبادرة على منح كل بالغ سويسري حدا أدنى من الدخل ''أو دخلاً أساسياً'' يصل إلى 2500 ألف فرنك سويسري ''2725 دولاراً'' في الشهر. ويستبعد المراقبون أن تحظى المبادرة بدعم الناخبين، إلا أنها أوجدت جدلاً حول العالم بشأن قضية توفير حدود دنيا للدخل. وبموجب هذه المبادرة سيحصل كل بالغ سويسري على ثلث الناتج المحلي للفرد تقريباً. ولو مررت هذه المبادرة من قبل المصوتين فهذا سيلزم الحكومة بتخصيص ما لا يقل عن خمس أو ربع الناتج المحلي السويسري وتحويلها للسكان. ولا تملك الحكومة المركزية موارد كافية للقيام بهذه التحويلات، حيث لا يتعدى إجمالي إيراداها عُشر الناتج المحلي السويسري، ولو لجأت الحكومة للاستدانة لتنفيذ المبادرة فستفلس خلال فترة وجيزة، أما إذا فرضت ضرائب لتغطية تكاليف المبادرة فستكون مرتفعة جداً، ومعيقة للنشاط الاقتصادي، ولن تحظى بموافقة السكان. ويمكن للحكومة العامة بما في ذلك حكومات الأقاليم والبلديات وصناديق التقاعد تحويل المبالغ اللازمة للتنفيذ المبادرة، ولكن هذا يتطلب إلغاء معظم برامج الإنفاق الأخرى التي تقوم بها الدولة والتي منها مخصصات التقاعد والتحويلات للفقراء ومنافع البطالة وكافة برامج التحويلات ومعظم الخدمات البلدية والاجتماعية. وتنفيذ هذه المبادرة يعني إلغاء معظم البرامج الحكومية والمؤسسات التي تستنفد مواردها، والحد بشكل فعلي من نفوذ الدولة وتأثيرها وخفض حجمها إلى مستوى متدن يقتصر على الدفاع والأمن. والهدف من توفير حدود دنيا للدخل هو ضمان مستوى معيشي لائق لجميع السكان وتقليل الفروق الكبيرة في مستويات الدخل وتحقيق المساواة بدرجة أكبر بين شرائح السكان المختلفة. وإضافة إلى ذلك، سيقلل توفير حد أدنى من الدخل من نفوذ الدولة وتأثيرها في السياسات الاقتصادية، ويعطي المزيد من الحرية للأفراد في تأمين احتياجاتهم مما سيخفض عدد المؤسسات والبيروقراطية الحكومية ومستويات الفساد. من جهةٍ أخرى، يشير منتقدوها إلى أن تطبيق المبادرة لا يركز على الشرائح السكانية الأكثر احتياجا، كما أنه يقلل من حافز العمل لدى عموم السكان، ويحفز على تسارع النمو السكاني. ويدفع توفير مستويات دخل مريحة نسبياً إلى رفع منافع الراحة مما قد يتسبب في ترك كثير من العمالة للوظائف منخفضة الدخل أو خفض ساعات العمل، كما قد يقلل من منافع اختلاف المهارات مما سيخفض من حوافز العمل ويدفع إلى تراجع الإنتاجية. ويقف عامل الكلفة كأهم عامل يمنع تطبيق هذه السياسة، حيث يصعب توفير مستويات دخل مريحة لعموم السكان لارتفاع تكاليفها، ولو توافرت الأموال اللازمة لطبقتها كثير من الدول. ويتطلب توفير مستويات دخل تصل إلى ثلث الناتج المحلي للفرد في المملكة مثلاً تخصيص معظم إيرادات الدولة إن لم يكن كلها لتوفير مستويات دخل أدنى بهذا المستوى. وتوفير مستويات دخل دنيا مريحة معناه إلغاء معظم البرامج الحكومية بما في ذلك كل التحويلات والدعومات والتأمينات الاجتماعية ومنافع التقاعد والتعليم والصحة ومعظم الوظائف الحكومية، والإبقاء فقط على خدمات دفاع وأمن محدودة فقط. ويمكن ضمان حدود أقل من الدخل والتخلي عن برامج الدعم الاجتماعي وبرامج الدعم المباشر وغير المباشر، ولكن تأثيرها سيكون محدوداً على العمليات الإنتاجية وعلى توزيع الدخل. فلو تم التخلي عن كل برامج التحويلات الاجتماعية مثل الضمان الاجتماعي ومساعدة البطالة ودعم السلع والتوظيف وجميع التحويلات للأسر واستبدلت بضمان دخل ثابت شهري لجميع السكان لأمكن تأمين دخل شهري للفرد في حدود ألف ريال. وفي حالة فقدان كل هذه الخدمات فإن هذا المبلغ الذي سيتلقاه السكان لن يغير كثيراً في أوضاع معظمهم بل قد تسوء أوضاع فئة كبيرة منهم، ولهذا فإن استهداف الشرائح السكانية منخفضة الدخل ببرامج دعم الدخل أفضل من تعميمها على جميع السكان.
إنشرها