Author

أوضاع العمالة .. حتى لا يتكرر الخطأ

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
أسئلة تطرح نفسها؛ متى وكيف تسرّبتْ تلك العمالة المخالفة إلينا؟ وكيف أنّها وصلتْ إلى تلك الأعداد المليونية أمام وتحت نظر الجميع: ''أجهزة رسميّة، قطاع خاص، مواطنين؟'' وكم من السنوات استغرقتْ في غفلةٍ من الجميع لتصل إلى هذه المعدلات بالغة الخطورة؟ وماذا نتج عن تفاقم أعدادها بهذه الصورة المفجعة؛ كتكاليف اقتصادية وتنموية، وكمخاطر اجتماعية وأمنية، وكهدْرٍ مالي لا يعوّض؟ وما الأسباب الحقيقية التي وقفتْ وراء تفاقمها بتلك الصور الخطيرة التي كشفتْ عنها حمْلة تصحيح أوضاعها؟ هل هي أسباب تنظيمية قصُرتْ فتم تجاوزها؟ أم هي أسباب رقابية تراختْ فتم اختراقها؟ أم هي الاثنتان معاً؟ أخيراً وليس آخرا وهو الأهم في الوقت الراهن؛ هل خلّفتْ تلك العمالة بعد طردها تشوهاتٍ معينة تستوجب الآن المعالجة والإصلاح؟ إنّها ظاهرة اقتصادية اجتماعية تستحق البحث والتقصّي من لدن الأجهزة المعنية بها، ليتم توظيف ثمرات نتائجها لاحقاً في زيادة تحصين جدران الوطن والمجتمع والاقتصاد، وفي اتجاه حماية مقدراتنا البشرية والمادية على حدٍّ سواء. إنّ من أخطرِ ما خلّفه تفاقم أعداد العمالة المخالفة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، هي المخاطر التالية: (1) الخطر الرئيس، المتمثّل في تشكّل وتعاظم نشاطات ''اقتصاد الظل'' أو ''الاقتصاد الخفي''، الذي بدوره سلب جزءاً لا يستهان به من عافية الاقتصاد الوطني، وكان سبباً رئيساً في حدوث المخاطر الأخرى الآتي إيضاحها وشرحها في بقية هذا المقال. تراوحت تقديرات حجمه وفقاً لصندوق النقد الدولي، التي أظهرتْ دراساته أنّ نسبته في البلدان النامية تراوحت بين 35 و44 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، ما يعني أنّه بالنسبة لاقتصادنا الوطني قد يصل حجمه بحدٍّ أدنى قياساً على إجمالي الناتج المحلي بنهاية 2012 إلى نحو 947 مليار ريال! يشمل ''اقتصاد الظل'' إضافة إلى الأنشطة الاقتصادية غير المشروعة، جميع أشكال الدخل التي لا يُعبّر عنها رسمياً والتي يتم تحصيلها من إنتاج السلع والخدمات المشروعة، سواءً كانت من المعاملات النقدية أو المعاملات التي تتم بنظام المقايضة. وتحديداً يتشكّل هذا الاقتصاد غير الرسمي من تجارة التجزئة والسلع الاستهلاكية التقليدية ''غير المعمرة''، وعمليات التجارة المرتبطة ببيع الفواكه والخضار والسلع الزراعية، كما تشمل المتاجرة بالذهب والأحجار الكريمة، وتجارة المواشي، وتجارة السلع المعمرة، إضافةً إلى الأنشطة المرتبطة بقطاع البناء والتشييد، وقطاع الخدمات كالدعاية والإعلان، وامتدت حتى قطاع الإلكترونيات والأجهزة الكهربائية، وتسويق وبيع برامج الحاسب الآلي ونسخها بصورٍ غير مشروعة. كما يشمل مخالفات التستر واسعة الانتشار في الكثير من أنشطة البقالات والمحال التجارية الصغيرة والمتوسطة كمحال الحلاقة والسباكة والصيانة الكهربائية والخياطة وغيرها من الكثير من الأنشطة التجارية الفردية التي لا تتطلب مهاراتٍ عالية، والتي تمتد عبر أرجاء المدن والقرى في السعودية طولاً وعرضاً. (2) إنّ تفاقم حجم نشاطات ''اقتصاد الظل'' وزيادة نموّه، واتساع نطاقات نشاطاته كما تبيّن في الفقرة أعلاه، تؤدي لاحقاً لإمكانية اجتذابه مدخلات الإنتاج الاقتصاد الرسمي بشكلٍ تدريجي، الذي بدوره السلبي جداً سيؤدي إلى إضعاف معدل نمو الاقتصاد الرسمي في الأجلين المتوسط والطويل، كما سيؤدي إلى تعطيل وإفشال مفعول أي سياسات اقتصادية قائمة، لعل من أهمّها سياسات توطين فرص العمل المحلية، وهو ما سيفاقم من نمو معدلات البطالة بين صفوف المواطنين والمواطنات. كل هذا بدوره سيسهم بصورةٍ مباشرة في زيادة معدلات الفقر بين أفراد المجتمع، بسبب انعدام التوظيف ومن ثم الدخل المادي الجيد الممكن تحقيقه؛ من خلال إتاحة الفرصة لأولئك الأفراد المواطنين بالعمل في تلك الأسواق والنشاطات التي استحوذ عليها ''اقتصاد الظل''، الذي كان سيمنع بدوره من وقوع كثيرٍ من الأسر والأفراد في براثن الفقر والعوز. (3) المساهمة في زيادة التسرّب المالي للخارج، ممثلاً بتسارع وتيرة نمو التحويلات إلى الخارج خلال السنوات الأخيرة بصورةٍ ملفتة ''بلغ مجموعها خلال 2008 - 2012 فقط لنحو 509.3 مليار ريال''، والملفت أكثر أنّها كانت تتجاوز بأحجامها السنوية إجمالي الرواتب السنوية المدفوعة للعمالة الوافدة ''حكومة، قطاع خاص'' حتى قبل خصم أي مصروف منها! يكفي القول إنّ تلك الزيادات خلال آخر خمس سنوات مضتْ ''2008 - 2012''، في التحويلات للخارج مقارنة بكامل الرواتب السنوية دون خصم منها؛ بلغت 142 مليار ريال! أمّا بافتراض خصم مصروفات العمالة الوافدة لنحو 30 في المائة من تلك الرواتب لإنفاقها على تكاليف المعيشة محلياً، فإن الزيادة للفترة نفسها ستقفز لنحو 252.2 مليار ريال. (4) الاستنزاف الكبير للموارد المحلية والمزاحمة على استهلاكها من قبل تلك الملايين من العمالة وأُسرها، وتُعد فاتورة الاستهلاك باهظة الثمن إذا ما علمنا أنّ مصادر الطاقة في بلادنا تستنزف دعماً مالياً طائلاً! وقد كتبتُ في هذا الجانب عدّة مقالات؛ مؤكداً أنّ انتهاج الحكومة سياسة سحب ذلك الدعم خلال عدة سنوات مقابل رفْع مستويات دخل المواطنين في القطاعين الحكومي والخاص، إضافةً إلى إصدار بطاقات تموين للأسر محدودة الدخل، كفيلٌ بالقضاء على أغلب مظاهر ''اقتصاد الظل''، وأنّه سيحد كثيراً من انتشار تلك العمالة المخالفة في البلاد، ولعل الدروس الأخيرة التي أظهرتها حملة تصحيح أوضاع العمالة المخالفة في البلاد، تكون نافذة ذات مفعولٍ قوي في انتهاج هذا الخيار الأمثل، لأثره البعيد والعميق في حماية مقدرات الوطن والمجتمع والاقتصاد من العبث والهدر وسوء الاستغلال. ختاماً؛ إن مجرّد زيادة فاعلية الأنظمة الرقابية القائمة، وزيادة تأهيل وتدريب الكوادر البشرية العاملة على تنفيذها، إضافةً إلى وضع حوافز مالية مجزية لتلك الكوادر من شأنه أن يحد كثيراً من عدم تكرار هذه الظاهرة بالغة الخطورة، التي ثبتَ أنّها المزوّد الأول والأقوى لوجود وتفاقم ''اقتصاد الظل''، وكما تبيّن لنا أعلاه بعض من آثاره الخطيرة اقتصادياً واجتماعياً. وربْطاً بما يدور حوله النقاش في الوقت الراهن في بعض الأروقة الرسميّة، من سعي البعض لاستصدار نظام جديد للحد من ''اقتصاد الظل''، أنبه إلى أن الكثير من مشاكلنا الاقتصادية والمالية ليس في حاجةٍ سنِّ قوانين وأنظمة جديدة، بقدر ما أنه في أمسِّ الحاجة إلى رفع كفاءة التطبيق والتنفيذ والرقابة والمتابعة، ولا أكثر من ذلك. وهذا ما يجب أن يتم في إطار مواجهة مثل هذه النشاطات بالغة الضرر، أنْ نتوجّه بالعلاج الفاعل إلى أساس منشئها، لا أنْ نهدر الوقت والمال على محاربة مظاهرها. والأساس هنا كما ذكرتُ سابقاً، هو رفع كفاءة تطبيق وتنفيذ الأنظمة والقوانين المقررة الآن، إضافةً إلى تكثيف دور الرقابة والمتابعة.
إنشرها