Author

خلفية المذاهب الفقهية .. بين التجرد والمؤثرات الخارجية

|
يعتبر العالم أو الفقيه جزءا من منظومة أي مجتمع يعيش فيه، ويتعرض لجميع المؤثرات الاجتماعية والسياسية، وهذا يجعل غالب الفقهاء لا يستطيع استيعاب دخول الرأي المخالف في بيئته، فبمجرد ظهور ما يخالفه يتشكل تلقائياً موقف الرفض ضده ومواجهته، فالفقيه المحدث بقي بن مخلد الأندلسي مثلا، كان قد سافر إلى المشرق وتعلَّم في تلك البيئة ما هو مخالف لكثير مما في بيئته الأندلسية، ثم قرر العودة إليها، وبدأ في نشر علمه، لكن فقهاء المالكية وجدوا في هذا العلم الجديد ما يخالف مذهبهم، فتعصبوا وحاولوا التضييق عليه وتشويه صورته، فتدخل أمير البلد محمد عبد الرحمن المرواني ومنعهم من التعرض له، وقال له: انشر علمك. وهكذا تجد في مجتمعات أخرى يجتمع العلماء في ذلك المكان ويحكمون بشذوذه، وقد يتم الاستقواء بالسلطة مثل ما حدث مع ابن تيمية حيث يصفه أحد فقهاء عصره شمس الدين محمد الوادي آشي ''.. يركب شواذ الفتاوى، ويزعم أنه مصيب''. ابن تيمية في المقابل يعتبر القضية تصحيحاً مشروعاً،.. لا؛ بل واجباً شرعياً لا يسعه السكوت عنه كما يقول ابن رجب: ''ومُنع بسببه من الفتيا مُطلقاً، فأقام مدة يفتي بلسانه، ويقول: لا يسعني كتم العلم''. وبالنظر إلى التاريخ نجد أن العلماء الذين تم إقصاؤهم ووصف أقوالهم بالشذوذ، وبعضهم تمت محاكمتهم نجد أن الذي حكم عليهم علماء أيضاً يشهد لهم التاريخ في الديانة والعلم الشيء الكثير، ولذلك يقول ابن رجب في ترجمة القاضي الذي أصدر الحكم بمنع ابن تيمية عن الفتيا في مسألة الطلاق ثم سجنه: ''محمد بن مسلم بن مالك بن مزروع الصالحى، الفقيه الصالح الزاهد، قاضي القضاة، وكان من قضاة العدل، مصمماً على الحق، لا يخاف في الله لومة لائم. وهو الذي حكم على ابن تيمية بمنعه من الفتيا في مسائل الطلاق وغيرها مما يخالف المذهب''، ولذلك يمكن تحليل هذه الصدامات الفقهية على أنها أزمة ''فكر'' وليست أزمة ''ديانة'' أزمة في اختلاف المعايير التي يتم من خلالها النظر في هذه المسائل. ولذلك قد يكون الرأي الفقهي أسيراً لأي مؤثر اجتماعي أو سياسي أو مصلحي خاص، وتتم مجابهة الأقوال الأخرى من هذا المنطلق وليس من قبيل الرأي والدليل. ابن تيمية في عصره قاد عملية تصحيح فقهي بآليات الاشتغال الفقهية المنهجية، ومع ذلك قوبل بالتضليل والتشوية والسجن والاستعداء من علماء وقضاة مشهود لهم بالعلم والفضل والديانة، ووصف فتواه في فتوى طلاق الثلاث بالشذوذ وحكم عليه أحد القضاة ووصف العلماء القاضي أنه من قضاة الحق والعدل، ومع ذلك قد يستغرب القارئ الكريم أن فتوى ابن تيمية التي كانت شاذة وسجن بسببها، هي المعمول بها حاليا في محاكم السعودية وغالب البلدان العربية، فكيف أصبح الشذوذ الفقهي المحكوم على صاحبه بالسجن هو السائد الآن، ومن جهة أخرى لا يمكن قبول موقف بعض الصالحين من الفقهاء والقضاة تجاه شخصية أو فكرة بالضلال والانحراف، وأن هذا الموقف في واقع الأمر صحيح خاصة إذا كانت منهجية الاستدلال سليمة. ومن هذا المنطلق تجد بعض الفقهاء تجبره الظروف الاجتماعية على البقاء على مذهب معين وعدم التحرر منه مثل ما حصل مع السبكي الفقيه الشافعي، حيث إنه بلغ رتبة الاجتهاد، ولكن ما كان يستطيع مفارقة قول الشافعية، ويجيب عن ذلك أبي زرعة العراقي حيث يقول: ''إن السبكي قاضي القضاة وابنه تاج الدين قاض في الشام وبيده وظائف جلها موقوف على الشافعية، فلو أدعى الاجتهاد لسُلب منه جميع ذلك فهذا هو السبب في عدم إعلانهم اجتهادهم المطلق، ونبذهم جميع المذاهب''. في الصراعات المذهبية والفكرية هناك حالات من المبالغات والحيف والتعدي لا يصح الاستجابة لها، ولو تمت الاستجابة لذلك لحصل خلل كبير في قيمة العدل والإنصاف، فهل يُمكن لفقيه منصف أن يستجيب لوصف القاضي أبي بكر بن العربي في الحنابلة وأهل الحديث حيث جعلهم ممن كاد للإسلام، ولا فهم لهم، وليس لهم قلوب يعقلون بها، فهم كالأنعام بل هم أضل، وعدّهم من الغافلين الجاهلين في موقفهم من الصفات، وشبههم باليهود، وقال: إنه لا يُقال عنهم: بنوا قصرا وهدّموا مصر، بل يُقال: هدموا الكعبة واستوطنوا البيعة – أي: كنيسة اليهود؟! إن المعيار الدقيق الذي يحتاج أن يعول عليه المنتمون لحقل العلم والقريبون من مواطن الخلاف هو معيار الحقيقة والدليل والبرهان، وليس معيار مواقف القلة أو الكثرة من فقهاء بلاد معينة ليكون مقياساً يقاس به صواب الأقوال من خطئها، ويقاس به صلاح الأشخاص من ضلالهم. إن هذا المقياس الأخير لو تمت الاستجابة له لكان كافياً في أن يُنهي مشروع الحركة التصحيحية التي قام بها بعض الفقهاء مثل ابن تيمية لأن ''أكثر من في البلد من الفقهاء كانوا ضده ووصفوه بالشذوذ''. إن مشكلة الاعتماد على منطق الأكثرية في هذه الصراعات وتَصَدُرها في كثير من الأحيان محكوم بظروف معينة عندما تنتهي ينكشف الحال وتعود هذه الأكثرية إلى وضعها الطبيعي، هذا إن لم تتحول بها الأمور إلى الوضع الذي كانت تتعامل به مع مخالفيها، والتاريخ يشهد بتحولات في كفة الموازين بين المذاهب، ففي ظرف تاريخي استطاع شيخ الشافعية أبو حامد الإسفراييني أن يُوثر في الخليفة العباسي القادر بالله، ويُقنعه بتحويل القضاء من الحنيفة إلى الشافعية، فلما فعل ذلك احتج الحنيفة ودخلوا في مصادمات مع الشافعية. لكن التاريخ يثبت أن الحال لا يستمر فقد استعاد الأحناف قدرتهم، وما إن فعلوا ذلك حتى قام قاضي القضاة الدامغاني الحنفي، بمنع أن يُحكم في القضاء بغير رأي أبي حنيفة، وأعلن أمام الملأ بأعلى صوته بأنه لم يبق في الأرض مجتهد، مما أثار حفيظة أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي الذي أنكر عليهم ذلك، وقال: هذا فيه فساد كبير. ولو نظرنا في واقعنا في المسائل المعاصرة في طريقة التعاطي مع الآراء المعاصرة، نجد أن الممارسات تعود من جديد، ولا تستفيد من موعظة التاريخ، مثال التعاطي مع مسائل يحتاج إليها المجتمع ولكنها تخالف الرأي السائد، ويتم التعاطي معها من زاويا أخرى زاحمت زاوية الدليل والبرهان.
إنشرها