قيادة المرأة للسيارة .. و«نشطاء» البطولات الوهمية

قيادة المرأة للسيارة .. و«نشطاء» البطولات الوهمية

تعود إلى ساحة النقاش في السعودية قضية قيادة المرأة للسيارة، و هي القضية القديمة المتجددة، التي تكاد تكون موضع اتفاق كاستحقاق بين النخب الثقافية والنخب الرسمية رغم تأخر البت فيها. وهي ضمن باقة استحقاقات في ملف المرأة السعودية الذي يتقدم للأمام بشكل واضح ضمن حزمة قرارات تم اتخاذها في السنوات العشر الأخيرة، آخرها قرار الملك عبد الله إدخال 30 سيدة مجتمع من النخب النسوية والأكاديميات مجلس الشورى، واللاتي بدورهن قدمن من ضمن أوراق مشاركاتهن تحريك ملف قيادة المرأة للسيارة. ملف قيادة المرأة في حد ذاته ليس قضية ''محظورة'' وطرقها ليس بطولة ''حقوقية''. تلك مقدمة لابد منها قبل الاسترسال في هذا الاستقراء الذي يسعى لفهم المشهد بتراكيبه المعقدة واستقطاباته السياسية التي تبلغ أشدها بين ''ناشطين'' يسعون لإعطاء الملف بعدا ''سياسياً''، باختيارهم موعداً لحملتهم المقررة في الـ 26 من أكتوبر الجاري، وهو الموعد الذي يتزامن مع انعقاد ''جمعية حقوق الانسان'' التابعة للأمم المتحدة لجلساتها في جنيف، بمشاركة السعودية بالطبع، وبين دعاة ''حركيين'' متشددين، يعتقدون أن تحريك ملف قيادة المرأة للسيارة ''بوابة لتغريب المرأة''. وبلغ رفضهم حد تقديم حجج مثيرة للسخرية مثل أن القيادة تؤثر في ''مبايض المرأة''، والقصة مشهورة على المستوى الشعبي. قبل قرابة العامين، وفي حمأة الهزة السياسية التي عبرت المنطقة، واصطلح على تسميتها ''الربيع العربي'' و خلفت وراءها فوضى شعبية، عاد موضوع قيادة المرأة للسيارة في السعودية للواجهة من خلال سيدتين سعوديتين هما نجلاء حريري ومنال الشريف. بعد هدوء الحدث الذي تناولته وسائل الإعلام العالمية، اختارت السيدة حريري التواري عن الأنظار الإعلامية، في ما يبدو أنه اقتناع بأنها معنية فقط بالتذكير بأهمية البت في هذا الملف الذي تحول إلى قضية معقدة مع الوقت, بينما اختارت السيدة الشريف الانخراط في حالة ''الاستقطاب السياسي'' وحالة ''الترميز'' التي عمت المنطقة العربية كلها بما فيها السعودية بالطبع. كتبت في حينه على موقع قناة ''الجزيرة'' القطرية الناطقة باللغة الإنجليزية، الطبيبة السعودية والناشطة في ''حقوق الانسان'' كما تحب تقديم نفسها، الدكتورة هالة الدوسري ''كان لي شرف الحديث إلى منال عبر الإنترنت، وكانت تماما كما تخيلت لها أن تكون: شخصا إيجابيا، يأخذ المبادرة، وتؤمن - كما جاء في الفيديو الشهير (الذي ظهر على موقع يوتيوب العالمي) - أن ''المطر يبدأ من قطرة واحدة''. تحدثنا طويلاً، وتقاسمنا أحلامنا عن هذه الحقبة الجديدة، حيث المواطنون في جميع أنحاء العالم العربي يشاركون في صياغة واقعهم ومستقبلهم (تقصد الكاتبة حقبة بداية الربيع العربي) كنا نتخيل أننا يمكن أن نفعل الشيء نفسه بالنسبة للنساء عن طريق القيام بحملة سلمية''. تلك كانت بداية جولات مكوكية للرمز ''النسوي والحقوقي'' الجديد (منال الشريف) و التي ستلف العالم متحدثة عن كل شئ, من المرأة إلى الحقوق السياسية, ولتصبح دون سابق تجربة ثقافية كاتبة في صحيفة ''الحياة'' في نسختها السعودية. هذا الحضور المكثف والطرح المتنوع في مجالات عديدة، كشف لاحقاً أن عباءة ''الحقوقية'' و''الفعالية السياسية'' تبدو واسعة و كبيرة على إمكاناتها، وهذا جزء مقارب لظاهرة ''النشطاء الحقوقيين'' في العالم العربي، حيث لا يتم التفريق بين ''الاحتجاج'' و ''النشاط الحقوقي''، فالأول يتطلب وجهة نظر مباينة لواقع ما، أما الثاني فيتطلب استحقاقات معرفية وفكرية ورؤية. يركز القائمون في البيان الذي أصدروه لشرح فلسفة حملة ''26 أكتوبر'' وأبرزهم الدكتورة هالة الدوسري، على أن الحملة تأتي في سياق ''هذه التطورات الإقليمية والدولية وما يدور في العالم الحديث من تسارع في شتى المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكوننا جزءا لا يتجزأ وشريحة بشرية من هذا الحاصل الكلي يسعى في فطرته ومن طموحه للتطور والتغيير نحو إنسان ووطن أفضل، نرى بما أنه لا يوجد مبرر واضح يقتضي منع الدولة المواطنات البالغات اللواتي يتقنّ قيادة السيارة من القيادة''. والحال أن ''الناشطين'' عادة ما يوجهون نقداً قاسياً للدولة السعودية، يتلخص في أن المسؤولين الحكوميين يخاطبون الخارج بمفردات وأفكار مختلفة عن المفردات والأفكار التي يخاطبون بها الداخل. فلماذا ينتهج ''الناشطون'' ذات السلوك المتناقض كما يرونه؟ فبينما كان القائمون يركزون في الخطاب الموجه للداخل على أن قيادة المرأة للسيارة استحقاق ''اقتصادي، اجتماعي، و ثقافي''، كانت الدوسري تصرح لوكالات الأنباء والتلفزيونات الأجنبية بطريقة مختلفة تماماً. في أحد تصريحاتها التي تناقلتها المواقع الإخبارية المختلفة، تقول الدوسري ''إن 26 أكتوبر ليست حركة نسوية بل حركة سعودية''. فيما صرحت لموقع قناة ''روسيا اليوم'' الناطق باللغة الإنجليزية والذي تطرقت فيه (القناة) لملف ''حقوق الإنسان''، وتناولت حملة ''26 أكتوبر'': ''لدينا قضايا تتعلق بالحقوق السياسية والمدنية وحرية التعبير وحرية التجمع. هذه هي القضايا الرئيسة التي تعرِّض الكثير من الأشخاص للخطر لمجرد التعبير عن آرائهم أو عندما يحاولون تشكيل الجمعيات والتظاهر أو الاحتجاج، والتي تحظرها الحكومة''. تلك كانت القضايا ''الرئيسة'' من وجهة نظر الدوسري، وليست قيادة المرأة للسيارة. هذا التصريح بحسب الموقع يأتي قبل يومين فقط من الموعد المقرر لبدء الحملة. رد فعل التيار الديني عادة، في ما يتعلق بملف المرأة متوجس دوماً من أي حراك يمس هذا الملف. فمن قضية الموقف الرافض لتعليم المرأة قبل 50 عاما إلى رفض تأنيث محال بيع الملابس الداخلية النسائية قبل سنوات. المثير لتساؤل المراقبين، لماذا لم يشكل على سبيل المثال دخول المرأة السعودية لمجلس الشورى على سبيل المثال هاجساً ''سياسياً'' مثلما تمثله قضية قيادة المراة للسيارة على مدار الـ 20 سنة الماضية؟ الإجابة في ''هاشتاق قيادة المرأة للسيارة بوابة التغريب'' في موقع التواصل الاجتماعي الشهير ''تويتر''، وهو ''هاشتاق'' أنشأه هذا التيار المتشدد للرد على حملة ''26 أكتوبر''، ويقول في بعض تغريداته الدكتور ناصر العمر ''قيادة المرأة ليست مطالبة بحقوق مشروعة، بل مشروع تغريبي يراد تمريره في حزمة من مشاريع الإفساد''. فيما قال الشيخ ناصر البراك على حسابه في موقع ''تويتر'': ''الإذن بقيادة المرأة للسيارة في هذه البلاد المحافظة المملكة العربية السعودية فتح بابا من أبواب الشر على الأمة''. تلك هي قصة الصراع الدائر في ملف قيادة المرأة للسيارة في السعودية، لا أحد يتحدث من الطرفين عنها كقضية منفصلة عن مشروع أكبر لا ''النشطاء'' من الحقوقيين ولا ''النشطاء'' من المتشددين. ربما هذا ما جعل القضية مع مرور الوقت تكتسب بعداً جديداً بتراكيب معقدة، ربما لو تم تفكيكه بلا بحث عن بطولات أو استحقاقات سياسية من وراء إقراره أو رفضه، لكانت مجرد قصة ''تاريخية'' مثل قضية تعليم الفتيات قبل 50 عاماً. الجميع يسعى، فيما يبدو، إلى ''تسخين'' الملف وليس إلى إيجاد حلول جادة له. كما هي عادة الفريقين في التماهي مع كل حدث خارجي من المحتمل أن يلقي بظلاله على الداخل السعودي.
إنشرها

أضف تعليق