Author

الطبيب مشغول .. هل بداية النهاية للأخلاقيات الصحية؟

|
اليوم بدا على السطح الكثير من التوترات والمؤثرات في العلاقة بين الطبيب أو الكادر الصحي بصفة عامة والمريض، محورها الخلل في العلاقة أو ما يطلق عليه علميا العلاقة مع المريض. وتطورت العلاقة للأسوأ إلى درجة أننا بدأنا نسمع مرضى وذويهم يعتدون على الأطباء والكادر الصحي ويلجأون إلى وسائل الإعلام والتواصل لإيصال شكواهم ومعاناتهم. إلى جانب طوابير من المواعيد والأخطاء الطبية، فلماذا وصلنا إلى هذا الحد من التطرف في العلاقة، وكيف ستكون النتائج العلاجية عندما لا يقبل أحد الطرفين الآخر أو يشك في قدراته وأخلاقياته المهنية. مهنة الطب والممارسة الصحية مهنة إنسانية بحتة، إذا تجاوزت هذا المفهوم أصبحت مثل أي مهنة تتعامل مع المادة، وبما أنها تتعامل مع الإنسان فإنها في غاية الدقة والحساسية ولا يمكن التعامل معها من المنظور المادي بل من المنظور المعنوي والنفسي والأخلاقي والتقييمي، ومهما أنفقت الدولة من مبالغ ووفرت التجهيزات والكادر الصحي وعلى رأسهم الأطباء يعانون شغف ضغوط الجانب المادي، فإن الخدمة ستكون غير مناسبة ومؤلمة وغير محبوبة، وعندما يخضع الممارس الصحي لضغوط المادة ومتطلباتها وإغراءاتها فإنه دون أدنى شك سيكون على حساب العلاقة مع المريض وأيضا جودة الرعاية الصحية. ماذا يبقى للمريض من وقت ورحابة صدر إذا تشتت المعالج بين عمله الحكومي والعمل في القطاع الخاص وحضور المؤتمرات والاجتماعات والتدريب والتعليم، وكم يبقى للأبحاث والإبداع وتطوير المهنة، وكم يبقى لبيته ونومه وعلاقاته الاجتماعية وتطوير ذاته، وكيف يتحمل جسمه هذه الضغوط والاجتهادات في آخر المطاف، ماذا نتوقع منه كبشر بعد ذلك؟ الضغط الذي يمارسه الطبيب على نفسه، وانشغاله إلى آخر الليل، وتزاحم الوقت، ما يجعل تشخيص بعض الأطباء يتم من بعد، أو أن يكون الكشف تجاه المريض سطحيا وغير دقيق مما يسبب خللا في خطة العلاج، وبالتالي حدوث الخطأ، وهذا الضغط يتمثل في عدة جوانب، أولا قوائم الانتظار الطويلة عند هذا الطبيب، وكما نعلم فإنه حتى لو اجتهد الطبيب في الكشف على جميع المرضى فإنه لن يستطيع أن يخفف من قوائم الانتظار، لأن هناك أسبابا أخرى أسهمت في حدوثها بعيدة عن الطبيب، حيث هناك معايير للوقت الذي يجب أن يمضيه أو يُنصح أن يمضيه الطبيب مع المرضى، فمن متطلبات أخلاقيات المهنة الليونة والإنصات لشكوى المريض والتخفيف عنه، وإعطاؤه الوقت الكافي في التشخيص والكشف والعلاج والمتابعة، في اعتقادي أن مثل هذه الأخلاقيات لدى البعض من الأطباء – أشدد على البعض – باتت ترفا وتم تغييبها تماما، لذا نسمع عن شكوى من بعض المرضى أن الطبيب أو الطبيبة غير مبالٍ أو لم يسمع شكواه، أو أن الطبيب أو الطبيبة حاد الطباع أو عصبي أو متوتر.. لكن تبقى إشارة إلى خلل ماثل وموجود هو انشغال الطبيب بأكثر من موضوع لذا تجده يؤدي عمله وقد يكون مشغولا بقضايا ومواضيع أخرى فلا يركز على مهنته، ويحاول زحلقة الحالات – إذا صحت التسمية. معادلة الكسب المادي والممارسة الطبية معادلة صعبة في الأصل في جميع دول العالم، والتوازن فيما بينهما أيضا صعب وعادة من يمتهنون مثل هذه المهن يذهبون إليها على أنها مهن لا تُكسب كبقية المهن وما يُبذل فيها من مجهود علمي وتدريبي لا يقارن بأغلب المهن، إلا أنهم على يقين بأنهم نذروا أنفسهم للعمل الإنساني، بل أضافوا إليه العمل التطوعي، كأطباء بلا حدود.. وغيرها من النشاطات التطوعية لعلاج الحالات التي لا تملك المال للعلاج. وعندما تكون المعادلة ليست مجرد كسب مادي مقترن بالقناعة التي تسير الحياة بل تتجاوز هذه المعادلة إلى استثمار وسباق محموم لجمع المال ومجهودات متناثرة ومبعثرة في كل مكان وفي كل وقت على حساب العلاقة مع المريض، فإني أخشى أن يكون الموضوع قد تجاوز الممارسة الإنسانية إلى: كم تدفع.. كم أعطيك من الوقت؟ عندما يرى طالب الطب أستاذه بهذه الصورة المادية على حساب الجانب الإنساني وأنه مشغول عن تعليمه وعن مرضاه واختار سكة ''أنه مستثمر وليس طبيبا'' فكيف ستكون مخرجات كليات الطب والعلوم الصحية، وعلى أي مفهوم يتربي طالب طب المستقبل.. هل ستعلم أنها مهنة إنسانية أم أنها مهنة تكسب ''فلوس''؟
إنشرها