Author

أين قلب الأسد؟

|
.. قبل أربعة آلاف سنة حدثت الفترة المفصلية الكبرى للبشرية، لقد تجرأ الإنسان على أن يخطو خطوة عملاقة للأمام عندما بدأ بناء المدن، أولاً في حضارات ما بين النهرين ثم في حوض النيل في حضارتي النوبة والفراعنة. ثم بدأ الصينيون بعد ذلك بـ 400 عام، وزامنهم الهنود، وأهل جزيرة كريت، الجزيرة الكبيرة في البحر المتوسط. وهناك عشرات الحضارات اختفت تماما بعضها بلا أي أثر، بينما بقيت حضارات الهلال الخصيب قابلة للتغير ومقاومة لأحداث الزمن بمرونة وتجاوب ظرفي وموضوعي. وهنا بدأت تظهر الكتابة، وهي أهم ما اخترعه الإنسان ليعبر عن أفكاره وعواطفه، لذا ترى في رسوم الكهوف ورموز الطواطم أن الإنسان بدأ وجدانيا بالأديان ثم بالعاطفة من الحب والكراهية، فعاشقٌ آشوري كتب في ورقة من الصخر الرقيق المنحوت لحبيبته: "إن حبي العظيم لك يعني أن أحافظ عليك ولا يمس جسدك أحد.. إلا كهنة المعبد". يا سلام! وكانت المعابدُ أيام الآشوريين والآكاديين تتطوع الفتيات للعمل فيها ويُسخرن أنفسهن لخدمة المعبد.. وخدمة الكهنة، وطبعا كانت متطلبات الكهنة أكثر من متطلبات المعبد نفسه.. وأخونا العاشق محافظ جدا يا عيني وصاحب غيرة على شرف حبيبته، فلا يسمح أن يمسها أحد إلا فقط طوابير الكهنة في المعابد! ظهور الكتابة المعبرة عن الأفكار، يعني اتساع مرافق وميادين التقنية، وكان البابليون سادة فيها، ولكن مع الكتابة بدأت حروب المجتمع وبدأت الأسرار ونمت شجرة مُرة طفيلية اسمها الفساد، وعشب لزج اسمه الجمود.. فنلاحظ أن في المدن عن طريق المكاتبات والاتفاقيات السرية التي حفظت الفساد لنفع المتنفذين، ثم إن الكهنة استخدموها بكثرة لتصل للناس مبشرين بالجمود والعودة للماضي، فبدأت الأمم تضعف وتضمحل ثم تنتهي إما بالتفكك أو هجوم من دولة طامعة فتريحها من كدرها وبؤسها. ليس هذا قصرا على الحضارات القديمة، ففي القرن التاسع عشر ظهرت الأرشفة ومكاتب الصادر والوارد، والكتابة الرسمية، وعم الخداع والتضليل على الجميع، على الأعداء، وعلى الشعب، بل وعلى الحلفاء.. إن تفكك أوروبا إلى معسكرين إنما هو بفك شفرات الرسائل مكتوبة بين المعسكرين، ثم أدت أجندة اتفاقية "يالتا" بين الحلفاء المنتصرين بريطانيا وأمريكا وروسيا بعد الحرب الثانية واكتشاف بعض مراسلاتها المكتوبة المخادعة إلى غضب ستالين فانعزل بكتلته الكبيرة الشرقية، التي سماها تشرشل بدول الستار الحديدي، فتفكك الحلفاء وبدأت الحرب الباردة، و"المكارثية" في أمريكا التي كادت أن تحول أكبر دولة دستورية ديمقراطية في العالم إلى دكتاتورية تجسسية بمتابعة رسائل ومكالمات ينفذها مواطنو أمريكا. ولو لم تُنه "المكارثية" في الوقت المناسب لوجدت أمريكا نفسها مثل دول الموز بساحتها الجنوبية. إن روسيا أيضا فسدت بحكم ستالين وحكم الترويكا (الثلاثي) الشهير، وبدأوا الضحك على شعوبهم وسرقة ثرواتهم وخداعهم وظلمهم، لذا من أول قطرة شمس حرية تفككت أكبر إمبراطورية توتاليرية عرفها التاريخ السياسي الدولي. تجد الآن دولا تبذل الوعود وتشكل الهياكل بكتابات ونصوص يتغنى بها فلاسفة الأخلاق، والمثالية الإدارية.. وفي النهاية تكون كيلا على كيل في أمراض موجودة.. وهنا يكون الفساد أقوى ممن يشرف على الفساد، فتفسد مقاومة الفساد نفسها، أو في أحسن الأحول تتجمد. الفساد صار بائنا شاهقا كجبل ضخم يسد العيون، إن أي طفل يستطيع أن يعد لك الفساد الكبير، بينما يغيب عن مفتشي الفساد. إن محارب الفساد يجب أن يكون بقلب أسدٍ لا يهاب ولا يردعه شيء.. وإلا فليرقص الفسادُ طربا. إن الجمودَ وعدم قبول التغير السريع في الحياة، ووجود مبشرين له لهم باع وقوة وتأثير، فهذا يهد في أساس الدولة كما يعيث النملُ الأبيض بأركان البنيان. إن تلك الحضارات التي انتهت وبعضها بلا أثر إنما من هذين العاملين. الحل واضح .. ولكن أين قلب الأسد؟
إنشرها