Author

وفاة «ماجد» .. نهاية الكوميديا السوداء لـ «الصحة»

|
كانت أغلبية المقالات والتعليقات تأخذ طابع الاستغراب والأسف كلما استفحلت حالة مرضيَّة أو توفي مريض أو تجاوز مستشفى حقوق مريض، أو أخطأ طبيب. من الطبيعي أن يحدث هذا في مرحلة الانكشاف الإعلامي واطلاع الناس على ما يدور في غرف الجراحة والطوارئ ومكاتب المحاسبة التي يتعمد الكثير من المستشفيات وضعها في القبو حتى لا يصل صراخ وجدال أهالي المرضى، المراجعين الآخرين. كنا نسمع عن خطأ طبي مرة أو مرتين في العام، فلا يستغرب أن يتعامل الناس مع الموضوع بألم. كان الأطباء المتعاقدون يمرون بمراحل من الاختبارات والتقييم والمعادلات. هذا الأسلوب أوصل الطمأنينة لقلوب المرضى وأهاليهم بأن هناك تنظيماً معلوماً يحمي ''المستفيدين'' من الخدمات الصحية. تطورت الأمور تدريجياً، ''ومع أنني من خارج القطاع الصحي، إلا أنني سأتحدث عن مشاهدات مواطن يعيش وسط هذه الزحمة من الأخطاء والتجاوزات، التي قد يرى البعض أنها متعمدة في أحيان كثيرة''. مع التطور أصبح منصب الوزير حكراً على الأطباء. وأصبحت الوكالات ''إلا ما ندر، كذلك محتكرة للأطباء والقليل منها للصيادلة، كما يحدث في أغلبية القطاعات التي تعاني عقدة إقحام المتخصصين في غير مجال الإدارة عنوة فيه، من مهندسين ومحامين وطيارين وخلافه. بدأت عندها حالة تراجع الخدمات الصحية تدريجياً. ارتفعت أعداد المخالفات لتصبح ظاهرة لا يكاد يخلو منها مستشفى حكومي أو خاص. أفردت الصحف لهذه الأخطاء صفحات، لدرجة أن إحداها كانت تورد كل يوم ما لا يقل عن ثلاثة تحقيقات كلها عن أخطاء طبية. أصبحت تلك الصحيفة الأكثر انشاراً بسبب تقاريرها عن تردي الخدمات الصحية. وصل إلى البلاد أعداد كبيرة من الأطباء والصيادلة ومختصي العلوم الطبية المساعدة وأطقم التمريض. ظهرت مع التمدد السكاني والزيادة الكبيرة في أعداد السكان الحاجة إلى مزيد من المتخصصين في كل ما ورد أعلاه. بدأ الناس يوجهون أبناءهم وبناتهم لدراسة التخصصات الصحية بسبب أعداد الأجانب الذين يشغلون وظائف صحية والرواتب العالية التي يحصلون عليها. في الإطار نفسه انطلق المستثمرون لتغطية الاحتياج في السوق بسبب تراخي الجامعات والمعاهد الحكومية في قبول أعداد ملائمة من المتقدمين. لن أدعي أنهم كاملون أو أنهم قريبون من الكمال أبداً، ذلك أن كثيرا منهم رأوها عمليات استثمارية بحتة، تحقق مكاسب مادية فورية وتمنحهم الدعم المالي الحكومي الذي لم يصرفوه فيما أريد له. هنا ظهرت إشكالية أخرى. حددت الجهات التنظيمية والتخصصية مواصفات عالية لكل من يريد العمل في القطاع الصحي، وهذا من قبيل المحافظة على سلامة المواطن، وأمر يشكرون عليه. فأخفق أكثر خريجي هذه المنشآت التعليمية في الحصول على الترخيص للعمل في مستشفيات الدولة، وقبلوا كموظفي سخرة في القطاع الخاص الذي يسيطر عليه الكادر الأجنبي. كل هذا أمر جيد ولا غبار عليه، إلا أننا اكتشفنا أن المنشآت الصحية التابعة للدولة توظف أشخاصا من الشوارع لا تأهيل لهم ولا تخصص سوى أوراق تنتجها آلات الفساد التعليمي والأكاديمي في دول العوالم الأول والثاني والثالث. أصبح التحقيق الأكثر انتشاراً في الصحف هو اكتشاف تزوير شهادات الأطباء الأجانب والعاملين في المجالات المساندة، الذين حال اكتشافهم يقبلون بأن يعملوا ''في نظافة المستشفى'' على أن يكشف أمرهم ويسفرون. نال هؤلاء الرحمة من أبناء جلدتنا، وهو ما لم ينله المواطن المسكين الذي تخرج في معهد صحي بعد دراسة ثلاث سنوات، أو كلية اكتشفت الوزارة أنها لا تقدم ''المستوى العلمي'' الملائم للعمل في مستشفياتها. وهو ما دفع بالكثيرين لتبني مفهوم ''أموت على يد ابن بلدي ولا أموت على يد الغريب''. من هنا بدأت الكوميديا السوداء تدخل المجال الصحي في بلادنا. بدأت النكات بالتهكم على مستويات المتعاقدين الذين يكتشف الناس أنهم سباكون أو كهربائيون، أو في حالة أفضل خريجو كليات علوم الاجتماع. ثم تطور الحال لتطول السخرية المكوِّن الأكبر الذي يحوي هؤلاء وهو المستشفيات وإداراتها، التي حاولت التغطية على أخطاء التعاقد بتوظيف هؤلاء في أقسام الملفات والأرشيف وغيره. استمرت النكات في ملاحقة كل الأقسام، بل حتى حالات الزواج التي انتشرت في فترة معينة بين المسؤول السعودي والموظفة الأجنبية. جاءت عمليات الإغلاق المؤقت للمستشفيات على خلفية موت عشرة أشخاص بسبب أخطاء طبية، أو توظيف غير متخصصين لتكون مادة دسمة للنكتة. قصة ''الآيباد'' أصبحت الكوميديا السوداء المطلقة في تاريخ الوزارة، من التشخيص وتكذيب التشخيص ومطالبة المستودعات باسترجاع ''الآيباد'' لأنه صرف لغير مستحق. ثم توفي الشاب ''ماجد'' الذي كان يُعانى السمنة المفرطة، وحصل على أمر علاج قبل عام لم ينفذ سوى قبل وفاته بأسبوع. ليقطع سيل النكات ويحيلها إلى بكاء ورجاء من خادم الحرمين الشريفين أن يتدخل لحل الأزمة الصحية في البلاد.
إنشرها