Author

لذّتي تُشقيني

|
تساؤل سلام الرويكة من تونس هو الآتي: ''قرأت مقالك ''اخرس يا سعودي'' وهي اللفظة التي فاه بها الشيخُ التونسي، وأخبرك أني كنت بين الحضور في مسرح الجامعة، وسمعت ذاك الشيخ وهو يكيل لك السباب. على أي حال لم يكن القصد هو هذا، ولكني تذكرتك وأنت تتكلم عن اللذة بالمعنى الأخلاقي العقلي عند ''كانط'' الألماني، ابتداء بمعناها عند أفلاطون حتى عند ''اسطوارت ميل''. ومن هذا الواقع الأخلاقي العقلي، الذي طبعا لم يفهمه ذاك الشيخ معتقدا أنك تتكلم عن القيم الأخلاقية الكلاسية، صرتُ أسأل نفسي سؤالا يعبث بضميري: هل يحق لي عمليا الشعور باللذة وأنا أرى الحال العربي في سورية ومصر وهنا في بلدي تونس، وهل هي معترَضة في الواقع الأخلاقي والعقلي، وأني يجب أن أخجل من شعوري بلذة السعادة مثلا؟''. أشكر سلام على سؤاله، وقد استفاض بالحديث غير أن المكان هنا محدود جدا. وأوضح شيئا عند أهلنا في المغرب العربي فهم يقلبون أل ''T'' اللاتينية إلى ''ط'' عربية. لذا أشير في السؤال إلى ''كانط''، والمقصود به الفيلسوف الألماني العقلي ''إيمانويل كانْت''، و''اسطوارت ميل'' هو الفيلسوف الاقتصادي الإنجليزي ''ستيوارت ميل''، ويجري في بلدان المغرب أن يسمى التاكسي ''طاكسي''. كما يلاحظ على كل العرب الذين سادت عندهم الفرنسية، ففي لبنان والشام ينقلب ''توني'' إلى ''طوني''، و''أنتوني'' إلى ''أنطونيو'' أو ''أنطونيوس''، وهكذا. نعود لتساؤل سلام. إن الإنسان بغريزته النفسية والفكرية والأخلاقية والطبيعية يلجأ تلقائيا للذة بوصفها القطب الآخر المضاد للألم والشقاء والمعاناة. فلا بد له - تلقائيا - أن يستعين بكافة الوسائل الإرادية من أجل العمل على تحقيق استمرار الراحة النفسية حتى لا تطير شعاعا، أو تهوي لمزالق القلق والكآبة والسوداوية، التي تضره ولا تنفع من يؤنب نفسه من أجلهم، بل هم أحوج لوعيه من شقائه وأحزانه. لذا نرى أخانا الإنسان يغلف اللذة التي يستحي منها أمام نفسه، أو يحرك خزيا بعيدا في ضميره، بأغطيةٍ براقة من الكلمات والأوصاف مثل ''الأمل'' و''الاسترجاع''، و''التذكر''، و''التطلع''، و''التفاؤل''. وهو هنا يخلط بين المعاني والأوصاف وهذا غير صحيح لا في السياق ولا في التركيب المعنوي، ولا في الحقيقة الواقعية الممارسة، فاللذة شعور داخلي مستقل وخاص بينك وبينك ولا يتعداك، وحتى لو شاركك شخص آخر تبقى في حيازة شعوره الداخلي المستقل الخاص. الحبُّ مثلا من أظهر أنواع اللذة، الحب لكل شيء من العصفور والوردة والفراشة إلى الأقرب وإلى النفس ذاتها.. وهي أمور لذائذية لا يمكن تجنبها إلا بجلدٍ غير مبررٍ للذات، ولكن يقول ''بروست'' مثلا إنه حتى عقاب النفس نوع من اللذة والتواصل الحُبي الدفين لشيء يتطلع فيه لذاته. بروست M. Proust وهو الكاتب الفرنسي لفتني حينما قال: ''إن كل حبّ نحبه لأي من وما كان إنما هو تعبير صارخ لحبنا لأنفسنا''، ولك أن تجادل في مقولة المسيو بروست ولكن لا تعني أنها تخلو تماما من الصحة. إذن إن اللذة والبحث عنها، وأنت تشعر بالألم والشقاء عندما ترى أحبابك وإخوانك يموتون ويقتلون ويعذبون شر العذاب، هو مطلب نفسي، وتلبية لمطالب، أيا كانت تلك المطالب، لما يلبيه الحبيبُ للمحبوب.. أي أن كليهما لا يتعارضان وإن اجتمعا، لأنهما يريحان طلبات الذات النفسية، ولا نملك، وهذا حتمي، أمرا بمقاومة طلبات النفس. إن اللذة ليس بالضرورة أن توصلنا لشيء بل تكون الهدف ذاته، وإن كنت تذكر فإني أشرت في اللقاء التونسي إلى ما قاله ''جوليان جرين'' في مذكراته الشهيرة: ''اللذة غاية في ذاتها..'' طبعا أعفّ عن باقي شرحه لها لأنها توصلنا لغير الهدف الذي أردناه. إننا نعيش عالما عربيا مؤلما يقطّع القلوب، ويؤذي الضمائر، ويرهق العقول، ويدر الدموع، من العراق إلى تونس، بين التحارب بين الشعب الواحد، للتحارب بين الأنظمة والشعوب، وكلها منّا وفينا، أي أننا لا نواجه عدوا خارجيا حتى تخرج عواطفنا سليمة ضد العدو الأجنبي الصريح. من هنا يكون شقاؤنا.. على أن الله جعل طبيعتنا تتكفل بتوازننا بالبحث الحتمي عن اللذة التي معناها إراحة النفس وإعادة توازن عقولنا وتعميق مشاعر ضمائرنا.. كي نستطيع أن نواصل ونساعد أنفسنا لنساعد قدر إمكاننا من نحب. فلا شأن لك بذلك يا سلام، وما لا لك شأن ولا يد فيه، لا تُسأل عنه، ولا تجازى عليه ثوابا أو عقابا. اللهم أرنا لذة الشعور بالراحة الكبرى وقد انزاح عن الأمة همُّها العظيم.
إنشرها