Author

الحب .. في زمن «الواتس»

|
يعتبر الحب العذري الطاهر العفيف ظاهرة تاريخية ظهرت في المجتمع العربي أواخر العصر الجاهلي واتضحت صورتها الجلية في العصر الأموي وامتدت عبر العصور المتلاحقة بشكل نادر حتى أصبحت مندثرة في عصرنا الحالي أو كادت، وخلد التاريخ بعض قصص العشق، بل حتى أصبح اسم العاشق مرتبطا باسم حبيبته، فهذا الحب العفيف الشريف لم تخالطه أهواء الغرائز ولم تدنسه شهوات الجسد ولم يحدث به ما ''يمرغ'' شرف العائلة في الوحل، بل كان كما يقول أهل البادية ''على وضح النقا''. وقد كان العاشق العذري لا يدنس حبه باتصال جسدي، بل كان يستأصل نزوات الجسد ويميت الشهوة في داخله حتى لا يفسد جمال الحب ورقيه وروعته، وكان العاشق العذري يرتبط بامرأة واحدة تملك عليه فؤاده ويتعذب بفراقها ويصطلي بنار الشوق والاشتياق إليها. وكان أساس الحب العذري التأمل والحديث والمناجاة ولا يتعداها للمس والخلوة المحرمة والغرائز البشرية. وقد ناجى قيس بن الملوح حبيبته ليلى قائلا: متى يشتفي منك الفؤاد المعذب وسهم المنايا من وصالك أقرب فبعد ووجد واشتياق ورجفة فلا أنت تدنيني ولا أنا أقــــرب بل إن العاشق الحقيقي يعشق كل ما يتعلق بحبيبته حتى لو كان ''كلبها وناقتها''. فيقول الشاعر المنخل اليشكري: وأحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري ويقول شكسبير: Who loves me love my dog with me.. أي (من يحبني يحب كلبي معي). والعشق الحقيقي لا يقتله الزواج كما يشيع البعض، بل يزيده قوة وصمودا وتدفقا، وما يحكى عن النعمان بن المنذر ملك الحيرة أنه كان قبيح الهيئة، وكانت زوجته (المتجردة) أجمل نساء زمانها، وكان يعشقها بجنون، وفي ذات يوم شاهدها الشاعر النابغة الذبياني مصادفة في قصر النعمان حين كانت تنحني لتلتقط إزارها الذي سقط على الأرض لتداري حسنها، إلا أن النابغة الذي صعق من جمالها لم يستطع أن يكبح جماح نفسه، فأنشد قصيدته الشهيرة التي يقول مطلعها: سَقَطَ النّصيفُ، ولم تُرِدْ إسقاطَهُ فتناولتهُ واتقتنا باليدِ بمُخَضَّبٍ رَخْصٍ، كأنّ بنانَهُ عنم على أغصانه لم يعقدِ وقبل أن يفيق من سكرة أبياته الشعرية وصدمة جمال المتجردة كان سيف النعمان يطلب رأسه، فانطلق هاربا، وظل يكتب اعتذارياته الشهيرة للنعمان، وهو عند الغساسنة ولم يصفح عنه النعمان إلا بعد عشرات السنين. أما ما يحدث اليوم من علاقات فنظلم الحب ظلما فادحا إن أطلقنا اسمه عليها ولو مجازا.. ولكن لنتفق أن نسميها ''حب الواتس''! وإليكم الفرق بين الحب الحقيقي وحب الواتس: - قديما كان المحب يتمنى أن يرى محبوبته في أحلامه ولو لمحة سريعة تطفي لهيب الشوق في قلبه.. واليوم بعد أن يتعرف عليها بأربع وعشرين ساعة ترسل له صورها وصور عائلتها وربما جيرانهم! - قديما كان المحب يعشق امرأة واحدة يرتبط اسمه باسمها وتسير الركبان بذكرهما وبأشعاره.. واليوم يزدحم جوال المحب بأسماء العديد من الفتيات وربما قسمهن على عدد أيام الأسبوع.. وحين يرسل ''مسجا'' فإنه يرسله لهن جميعا من باب العدل! - قديما كان المحب يسعى للزواج من محبوبته ولو قاتل العالم أجمع ليحظى بها زوجة يسعد بقربها وتسعد بقربه.. واليوم تنتهي أغلبية قصص الحب بين مراكز الهيئات وقضايا الآداب وحتى لو أرغموه على الزواج بها من باب الستر فبعد بضعة أيام سيطلقها! - قديما كان المحب يصطلي شوقا وهياما وهو يتأمل حياء محبوبته وصمتها والخجل الذي يسكن قسماتها.. والمحب اليوم يصطلي بثمن ''بطاقات مسبقة الدفع'' وسعر الوجبات في المطاعم والهدايا التي تطلبها منه محبوبته في الوقت نفسه الذي تطلبها من قائمة عشاقها المغفلين مثله. - قديما كان الحب يسكن قلب صاحبه ويحمله معه حتى آخر أيام حياته كما حدث لقيس الذي جن من حب ليلى وجميل الذي زهقت روحه من شدة عشقه لبثينه .. واليوم أصبح الحب ''سلق بيض'' يبدأ وينتهي خلال بضعة أيام! - قديما كان الحب طاهرا عفيفا ساميا لا ينساق وراء رغبات الجسد وشهواته مهما طالت مدته بينهما.. واليوم يطلب المحب فترسل المحبوبة صورها بأوضاع ''فاضحة'' وربما ذهبت معه بكل أريحية إلى شقته، وحين يبتزها تبدأ ''باللطم والعويل''! الحب الحقيقي يا سادة هو تجربة إنسانية راقية سامية طاهرة، خاصة حين تنتهي بالزواج.. أما ما يحدث اليوم من علاقات.. فدعونا نسميه ''حب الواتس''، وهو مجرد فقاعة صابون لا أكثر.

اخر مقالات الكاتب

إنشرها