Author

لماذا المواطن.. الغائب الأكبر اقتصادياً؟

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
طرحتُ ثلاثة أسئلة محورية في نهاية مقال الأسبوع الماضي هنا في ''الاقتصادية'' ''من أين تؤكلُ الكتف؟''، المنشور بتاريخ 12 آب (أغسطس) 2013 العدد 7245، وأنَّ الإجابات عنها من قبل الأجهزة الاقتصادية والمالية لدينا، ستفتح أمامها نوافذ واسعة النطاق للمبادرة باتخاذ ما يلزم من القرارات والإجراءات الكفيلة بمعالجتها، ومن ثم الاندفاع لاحقاً نحو تجاوزها وعدم الوقوع فيها مرة أخرى، وتوظيف كامل الموارد المتاحة لأجل التقدّم الشامل والحقيقي بسفينة الاقتصاد الوطني. جاءت الأسئلة الثلاثة كالتالي: (1) لماذا لم ينعكس النمو القوي المتحقق للاقتصاد الوطني طوال الأعوام الخمسة الأخيرة على مستوى معيشة الفرد؟ (2) لماذا تفاقمتْ مستويات البطالة وانخفاض مستوى الدخل الحقيقي للفرد وغيرها من التحديات الجسيمة إزاء هذا التحسّن القياسي وغير المسبوق في الوفورات المالية؟ (3) هل تمَّت مراجعة كل السياسات المالية والاقتصادية المعمول بها في الوقت الراهن، وخاصةً أنّه لم يتغيّر فيها حرف واحد طوال أكثر من أربعة عقودٍ مضت؟ وذلك على الرغم من التغيّر الكبير الذي طرأ على الظروف والمتغيرات والوقائع الاقتصادية محلياً وخارجياً؟ ألتزمُ هنا بوعد محاولة البحث عن إجابةٍ عنها، كواجبٍ يتحمّل مسؤوليته الجميع، ولكنّه في الوقت ذاته لا يمكن أن يتقدّم على مسؤولية الأجهزة الحكومية المعنيّة بكل القضايا المحمّلة في ثنايا تلك الأسئلة، وإننا جميعاً بانتظار الإجابة القاطعة والمسؤولة من قبِل تلك الأجهزة، وألا يطول انتظارنا أكثر مما انتظر الاقتصاد الوطني، وهو على وشك إنهاء 44 عاماً من الانتظار! أُجيب الآن عن السؤالين الأولين؛ فأقول إنَّ اقتصادنا يُصنّف على أنّه اقتصادُ ريعي من الطراز الأول، فهو اقتصادٌ نامٍ اعتمد في وجوده على مصدرٍ وحيد للدخل هو ''النفط''! ولأن الحكومة هي التي تتولاه من الألف إلى الياء، فأنت أمام اقتصادٍ تتشكّل سمته الرئيسة في ركيزتين لا ثالث لهما، الأولى: أنَّ ''النفط'' يمثّل المصدر الأول والأهم في الإيرادات والنفقات الحكومية. الثانية: أنَّ الحكومة تمثل القلب النابض للاقتصاد الوطني، وحتى ما يسمى بالقطاع الخاص فلا يتجاوز في نهاية المطاف كونه كائنا طفيليا يقتاتُ على هبات وعطايا ذلك القلب النابض، ممثّلاً في أغلبها من عقود ومناقصات. هذا بدوره أفضى إلى تشكّل اقتصادٍ يعتمد في الدرجة الأولى على الحكومة، والحكومة بدورها تعتمد على النفط، وهكذا تدور العجلة! نأتي بعد قليل لاستكشاف دورة الأموال داخل جسد الاقتصاد الوطني، كيف تتم؟ ولنبدأ من نقطة الإنفاق الحكومي. مع بدء الطفرة النفطية الأولى في السبعينيات الميلادية، أُبتكرتْ أفكار رائدة لتوزيع التدفقات المالية الهائلة آنذاك، لعل من أبرزها صناديق التنمية الحكومية، وتأسيس الحاضنات الصناعية، مستهدفةً النهوض التنموي أولاً، وثانياً لخلق قطاعٍ خاص يكون أهلاً فيما بعد لقيادة الاقتصاد، فماذا حدث على سطح الإنجاز الفعلي لهذه الأفكار؟ كما أسلفتُ، كان الدور الأبرز مملوكاً للإنفاق الحكومي كأهم داعمٍ للأداء الاقتصادي، سواءً عبر الإنفاق المباشر ''راوحتْ نسبته للاقتصاد 1975 ـــ 1989 بين 43.1 في المائة و58.2 في المائة''، أو عبر صناديقها التنموية ''وصل إجمالي دعمها حتى نهاية 2012 لأكثر من 0.5 تريليون ريال''، ونجحتْ الأفكار الرائدة بداية الطفرة في تأسيس حاضنات صناعية كالجبيل وينبع ''بلغتْ التكلفة الأولية لإنشاء وتأسيس مدينة الجبيل الصناعية نحو 70 مليار ريال، وتجاوزتْ بذلك الإنفاق السخي عليها آنذاك نصف حجم الاقتصاد الوطني''، وحدث فيما سُمّي حينها بـ''الطفرة الأولى'' تقدّم ملموس وحقيقي على مستوى أهداف تلك الحقبة في اتجاه تشجيع القطاع الخاص. تلاشتْ تدريجياً الأهداف طوال العقود الثلاثة التالية، وانحرفت الأمور عن مساراتها المثالية التي بدأتها، فأسعار النفط أخذتْ تتراجع بصورةٍ مؤلمة، ألجأت الميزانية العامّة للاقتراض المحلي لتمويل نفقاتها، ما فاقم لاحقاً من الدّيَن المحلي ليتجاوز حتى حجم الاقتصاد، وزاحمتْ الحكومة القطاع الخاص على الوعاء الصغير للائتمان المحلي، ما أدّى إلى إنهاك القطاع الخاص إضافةً لإنهاكه السابق مع تراجع الدعْم الحكومي له، وتشتّتَ الإنفاق الحكومي بين نفقاتٍ جارية وسدادٍ لفوائد وأصول الدّيَن المحلي، إلى أنْ عادتْ أسعار النفط في مطلع الألفية الثالثة للصعود، وأخذتْ الأمور مساراً عكسياً أفضى لانخفاض المديونية الحكومية، وزيادة الاحتياطيات، ومن ثم عاد الدعم الحكومي للقطاع الخاص في صورته التقليدية السابقة ''عقود ومناقصات، قروض تنموية''! المفاجأة غير المحسوبة؛ أنّ الاقتصاد المحلي كان قد امتلأ خلال تلك الحقبة الطويلة ونتيجةً لها بالكثير من التشوهات والاختلالاتْ، فاقم منها بالدرجة الأولى الجمود الذي طغى على السياسات الاقتصادية طوال الحقب الماضية، لم تُحسن الجهات الحكومية المعنيّة بها التعامل معها وقت نشوئها، ولا في مراحلها التالية، ولا تزالُ حتى الساعة تنتهجُ السياسات ذاتها! رغم أنَّ تلك التشوهات التي تحوّلتْ في الفترة الأخيرة من مجرّد كونها تحديات إلى كومةٍ مخيفة من الأزمات! أفاقَ الاقتصاد المحلي من تأثير عقدين من انخفاض أسعار النفط، وابتعادٍ عن أهدافه التنموية، ليجد نفسه أمام تراكماتٍ وخيمة من التأخّر التنموي! تفاقم لاحقاً إلى تشكّل ما يُسمّى اليوم ''بالفجوات الإنمائية''، وهي تحديداً الثقوب السوداء التي غُرستْ فيها أقدام المواطن، مشكّلةً ما يواجهه من انعزالٍ شبه تام بينه وبين ما يحيط به من نمو اقتصادي، وزيادةً في الإنفاق والوفورات من حوله. أتابع القول، تفجّرتْ في وجه الاقتصاد تباعاً، معدلات البطالة المرتفعة، وانخفاض الإنتاجية، وتآكل الدخل الحقيقي للفرد، وتوسّع نشاطات الاقتصاد الخفي، وتفاقم أشكال الفساد، وقطاعٌ خاص أضعفُ من أن يُعتمد عليه، ومشروعاتٍ متأخرة جداً للبنى التحتية، وزيادةٌ مفرطة في استقدام عمالة غير ماهرة، وضيقٍ في القنوات الاستثمارية، قابلها زيادةً في احتكارات العقارات والأراضي، وتفاقم المضاربات بصورةٍ مقلقة ''سوق الأسهم، ثم سوق العقار''، وتأخّر الأنظمة عن مواكبة المستجدات... إلخ. وجدتْ الوفورات المالية المتزايدة عاماً بعد عام ''2005 ـــ 2013'' أنّها أمام مهمّتين رئيستين: (1) استدراك المتأخّر. (2) تنفيذ مشروعات المرحلة. وكلاهما يواجه في الوقت ذاته مواجهة عسيرة مع التشوهات أو الأزمات التي طغتْ بآثارها السلبية على الاقتصاد. هل الأمر عسيرٌ حلّه؟! الإجابةً قطعاً ''لا''، ولهذا حديثه القادم بمشيئة الله.
إنشرها