Author

كفارة يا شيخ (2 من 2)

|
بدأت مقالي في حلقته الأولى بالحديث عن صدمة المجتمع من مخالفة الرموز لما يتوقعه الناس منهم. وضرورة أن يعمل رجل الدين على المحافظة على قيم الدين عبر الحكمة وعدم الاندفاع ودفع الناس إلى سلوكيات تسيء إليهم أو إلى وطنهم اعتماداً على تعميم قناعاته الشخصية التي لا تدخل في الحلال والحرام. واليوم أكمل في قضية التوقف عن تعميم الرأي دون الإحاطة بكل ملابسات الموضوع. غيرت الوثائق التي نشرتها ''ويكيليكس'' كثيرا من تلك القناعات والمفاهيم التي كنت قد تبنيتها. وجد في برقيات السفارة الأمريكية في الرياض لوزارة الخارجية الأمريكية كثير من المواقف العروبية والإسلامية التي لم تكن تظهر في صدر نشرات الأخبار أو في عناوين الصحافة المحلية والعالمية، بل كان عكسها هو الذي يتم تداوله. أهم قضية كانت المملكة تتهم فيها من قبل أعدائها في دول كثيرة، وفي الداخل هي قضية غزو العراق عام 2003. نشرت ويكيليكس مجموعة من الوثائق التي اعترضت فيها المملكة على غزو العراق، بل مطالباتها من خلال أكبر مسؤولي وزارة الخارجية بألا تندفع نحو تصرف خطير كهذا، لكن السائد أن المملكة كانت تؤيد ذلك الغزو. قضية أخرى ذات أهمية كبرى كذلك كانت الوقفة التاريخية التي تبنتها المملكة عندما دخلت القوات الإسرائيلية إلى جنوب لبنان بالضغط على الولايات المتحدة لإرغام إسرائيل على الانسحاب دون شرط، وعزا كل الكتاب والمعلقين والسياسيين ذلك إلى أطراف أخرى لم تكن في موقف تستطيع معه أن تضغط أو حتى تظهر على وسائل الإعلام. التعامل مع التهديد النووي الإيراني كان أيضاً واحداً من الأمور التي كنا نظن أن فيها تنازلات وضعفا في الموقف السعودي، لكن العودة لعام 2007 ومذكرات السفارة الأمريكية، تدل على أن السعودية قدمت حلاً لو تبنته الولايات المتحدة لكان الشرق الأوسط – بكليته – في حال أفضل. أطلب من كل من تبنى موقفاً – مثلي – أن يتأكد أن هناك معلومات لا بد أن يعرفها قبل أن يتخذ موقفه. كما أقول لمن صرخ عبر الشاشات، وكتب بيانات الشجب والاستنكار، وطالب بالتوقيعات من قبل كل المواطنين أن يعاود قراءة الموقف بعيداً عن التشنج. لن أناقش قضية صندوق الاقتراع، وكيف يبرر شخص يمثل الإسلام ومفاهيمه أن يحتكم إلى صندوق الاقتراع وهو مفهوم أنتجته العلمانية، ويتعارض مع مفهوم الإسلام في اختيار وتنصيب الحاكم، فهذا ليس مكان نقاش من هذا النوع، لكنني أريد أن يراجع كل أصحاب المواقف مجموعة من الملاحظات: - لا بد أن يسأل المرء نفسه، كيف يمكن أن أحكم على أمر لا أحيط سوى بجوانبه التي تعرضها شاشات التلفزيون. لم أدخل غرف السياسة، ولا دهاليز السلطة لأعرف لماذا حدث ما حدث، وما المخاطر التي رآها المسؤولون من استمرار الوضع في دولة ما على حاله، وعلى هذا ينطبق قوله تعالى ''ولا تقف ما ليس لك به علم''. - كيف يمكن أن أكون أحرص على مصر من علماء مصر؟ هل أنت أحرص من الشيخ محمد حسان الذي اعتزل الإعلام وترك المنابر وتوقف عن إبداء رأيه سوى من كلمة مقتضبة دعا فيها الشعب المصري إلى حقن دمائه والبعد عن العنف. لماذا لم يقل شيخ الأزهر سوى أنه سيعتكف في بيته؟ هل الأولى في حال الفتن أن يخرج الشيخ ليكسب المزيد من المؤيدين أم يلزم بيته؟ - ألا يسبب البيان الذي دعوت لتوقيعه إلى تعميق الجرح، والإساءة للعلاقة بين البلدين؟ يتحدث الكثيرون اليوم عن القضايا المختلفة التي تسود الشارعين الوطني والعربي، ويتدخل البعض في شؤون هم لا يفقهون أساسها ولا منبعها وإلى أين تتجه. ثم يدافع الواحد عن قناعته التي كونها بشراسة تتجه بمتابعيه والمتحمسين لآرائه للصدام مع النمط السائد الناجح في التعامل مع الأمور. لا بد أن يعلم كل واحد منا حجمه، وأين يصل كلامه، وكيف سيتصرف من يسمعونه أو يقرأونه. بل إنني لاحظت أن هناك من يشجع مثل هذا الخروج على السياسة العامة ممن يقفون على مدرجات التويتر ويفرحون بأي توتر يحدث بين عالم دين وبين أجهزة الدولة، بل يسميهم أصدقاء اليوم بعدما كانوا أعداء الأمس، لا لشيء سوى كون موقفهم يعارض سياسة الدولة. العلماء الربانيون مطالبون اليوم بالابتعاد عن التشنج، والبحث عن المعلومة، والحكمة في التعامل مع الأمور. ذلك أن الانتماء للدين يستوجب أن يحافظ العلماء على تقارب الناس وتوادهم ويضمنوا الوحدة الاجتماعية التي تسبب كثير ممن يدعون أنهم علماء دين إلى تفكيكها في دول مثل العراق والبحرين وسورية. بسبب تضخيم الاختلاف والجهل بمآلات وتفسيرات الناس لما يقال ويكتب. ليست هذه دعوة لمصادرة الرأي المعارض، إنما طلب من محب لكل من له متابعين ومتحمسين لأن يعيد النظر فيما يقول أو يغرد به من قناعات شخصية، لا ترقى لتكون في مرتبة الحلال والحرام، أن يرأف بمن خلفه ممن وثقوا به، وأن يحافظ على ثقتهم به، وأن يتوقف عن اقتفاء ما ليس له به علم، حتى يعلم كل ما يحيط بقضيته. وأن يأخذ فراشه من غرفة التوقيف لئلا يستمر في استقبال عبارة ''كفارة يا شيخ''.
إنشرها